الإصلاح الاقتصادي في سوريا: بين السيادة المالية والانضباط الدولي؟
في الوقت الذي تؤكّد فيه الحكومة الانتقالية السورية أنها لن تنجرّ إلى فخّ الاقتراض الخارجي، تكشف خطواتها الأخيرة عن تحول جذري في السياسات الاقتصادية نحو تطبيق برامج إصلاح حادة تفوق حتى ما توصي به مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
فبينما تتحدث البيانات الرسمية عن “انفتاح مدروس” على الاقتصاد الحر التنافسي، تشير الإجراءات الميدانية إلى أن دمشق الانتقالية تجاوزت بالفعل أكثر وصفات التحرير الاقتصادي تشدداً، في خطوة وصفها مراقبون بـ”الصدمة غير المتوقعة”، خاصة بعد رفع أسعار الكهرباء بنسبة فاقت حتى تقديرات خبراء البنك الدولي أنفسهم.
إصلاح بلا قروض: تطبيق الوصفات الدولية مقابل دعم رمزي:
تتبنّى الحكومة الانتقالية مقاربة جديدة تقوم على تنفيذ الشروط الإصلاحية الدولية من دون اقتراض مباشر، أي تطبيق سياسات البنك وصندوق النقد بالكامل من غير الدخول في التزامات تمويلية رسمية.
وقد ساهمت السعودية وقطر في تسديد متأخرات مالية سورية بقيمة تقارب 15 مليون دولار، ما أعاد فتح قنوات التواصل بين دمشق وكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وخلال اجتماعات الخريف الأخيرة للمؤسستين، أعلن وزير المالية السوري محمد يسر برنية عن تفاهمات جديدة تشمل إرسال بعثات فنية إلى دمشق لتقييم القطاعات الاقتصادية الحيوية، من الطاقة والمياه إلى التعليم والصحة والنقل.
هذه التفاهمات، رغم طابعها الفني، وضعت المؤسستين في تماس مباشر مع مفاصل الاقتصاد السوري، ما يمنحهما قدرة عملية على توجيه السياسات العامة خلال المرحلة الانتقالية.
التحرير الصادم: إجراءات تفوق توصيات البنك الدولي:
تجاوزت الحكومة الانتقالية نهج الإصلاح التدريجي المعتاد، وطبّقت إجراءات تصنّف حتى بمعايير البنك الدولي على أنها قفزات حرة نحو التحرير الكامل.
ففي غضون أشهر قليلة:
توقفت معظم الشركات الصناعية العامة.
خفّضت الإنفاق الاستثماري إلى أدنى مستوياته.
سرّحت آلاف العمال أو دفعتهم للاستقالة الطوعية.
رفعت أسعار المشتقات النفطية لتوازي الأسعار العالمية.
زادت سعر الخبز بأكثر من عشرة أضعاف.
وأقرّت رفعاً غير مسبوق لتعرفة الكهرباء فاق قدرة معظم الأسر السورية.
النتيجة: خروج الطبقات الفقيرة من نطاق الاستهلاك الأساسي للطاقة وتدهور حاد في القدرة الشرائية للمواطنين، في وقت تُعلن فيه الحكومة أن هذه الإجراءات “ضرورية للإصلاح المالي”.
منح مالية مشروطة ودعم رمزي:
في حزيران 2025، أعلن البنك الدولي عن منحة بقيمة 146 مليون دولار لدعم قطاع الكهرباء في سوريا، وُصفت بأنها منحة تحفيزية مشروطة أكثر منها مساعدة مباشرة.
وجاءت المنحة بعد تلقي إشارات رسمية من دمشق تؤكّد التزامها بالتحرير الكامل للأسعار. كما أعلن وزير المالية لاحقاً عن تفاهمات لتمويل مشاريع أخرى بمنح قد تصل إلى مليار دولار خلال ثلاث سنوات، ما يشير إلى علاقة قائمة على “تبادل الإشارات” بدلاً من العقود.
تاريخ من العلاقات المتقلبة مع المؤسسات الدولية:
عرفت العلاقة بين سوريا والبنك الدولي ثلاث مراحل رئيسة:
مرحلة الانقطاع المتكرر منذ الاستقلال وحتى نهاية القرن الماضي.
مرحلة القروض المحدودة التي لم تؤثر فعلياً في السياسات الاقتصادية.
مرحلة التعاون الفني مطلع الألفية، التي توقفت عند “الخطوط الحمر الاجتماعية”.
أما اليوم، فتبدو الحكومة الانتقالية أكثر استعداداً لتجاوز تلك الخطوط، بل إنها تفوقت في جرأتها على المؤسستين نفسيهما بتطبيق سياسة “التحرير الصادم” بلا ضمانات أو شبكات أمان اجتماعية.
سيادة مالية أم ارتهان اقتصادي؟
تؤكد الحكومة السورية المؤقتة أنها ترفض الاقتراض الخارجي حفاظاً على السيادة الاقتصادية، لكن المضمون الفعلي لسياساتها يعكس ارتهاناً غير معلن للمنهج الدولي في إدارة الاقتصاد.
فالخلاف لم يعد حول القروض نفسها، بل حول الفلسفة الاقتصادية التي ترى أن الانضباط المالي يجب أن يسبق العدالة الاجتماعية.
وبهذا، يبدو أن الحكومة الانتقالية لا تنتظر برامج البنك الدولي لتبدأ الإصلاح، بل تطبّقها مسبقاً، وبمستويات من الصرامة تفوق توقعات أكثر المتشددين في المؤسستين.
إقرأ أيضاً: البنك الدولي: 216 مليار دولار التكلفة التقديرية لإعادة الإعمار في سوريا
إقرأ أيضاً: الوضع الاقتصادي في سوريا 2025: انهيار، تحديات، وفرص إعادة الإعمار