لبنان بين موجتين من النزوح السوري: هاربون من حربين ونظامين
بعد أكثر من عقد على استقبال لبنان مئات الآلاف من السوريين الفارّين من حرب عام 2011، يعيش البلد اليوم مشهداً مشابهاً ولكن مع اختلاف في الاتجاهات والانتماءات. فبينما كانت الموجة الأولى تضم معارضين لنظام بشار الأسد، تضم الموجة الجديدة القادمين من الساحل السوري والسويداء معارضين للسلطة الحالية، ليجد لبنان نفسه مجدداً أمام نزوح مزدوج يعكس عمق الانقسام السوري وتحوّل الصراع إلى أشكال جديدة من التهجير الداخلي والخارجي.
هذه الموجات المتجددة لا تعني أن لبنان أصبح ملاذاً ديمقراطياً أو بلداً مفتوحاً على الجميع كما قد يُظن، بل تعبّر عن واقع أكثر تعقيداً، إذ إن تنوّع الطوائف والمذاهب في البلاد أتاح مساحة من التسامح النسبي، جعلت منه أرضاً يمكن أن يلجأ إليها من ضاقت بهم الجغرافيا السياسية السورية.
من السويداء إلى عكار: نزوح جديد بلونٍ مختلف
في الأسابيع الأخيرة، وصلت إلى لبنان مجموعات كبيرة من الدروز القادمين من محافظة السويداء، فرّوا من المواجهات والاضطرابات الأمنية هناك، إلى جانب عائلات علوية نزحت من الساحل السوري بعد موجة من الاعتداءات وعمليات الخطف والاغتيال.
وانتشرت هذه العائلات في مناطق عدّة من الشمال وجبل لبنان، وسط تحرّكات مدنية ودينية تهدف إلى تأمين المأوى والمساعدات الإنسانية لهم.
مبادرة “أهل البيت”: بين العمل الإنساني والتأويل السياسي
من بين أبرز التحركات التي رافقت موجة النزوح الجديدة، برزت مبادرة “أهل البيت” التي أطلقتها “منظمة إنماء سوريا الغربية” المسجلة في واشنطن، والتي تُعرّف عن نفسها بأنها تعمل على “تمكين المجتمعات المضطهدة في سوريا، من العلويين والدروز والمسيحيين والأكراد والسنة المعتدلين”، مع التركيز على التنمية المستدامة وإعادة الإعمار.
غير أن خلفية التمويل أثارت الجدل، إذ تشير تقارير إلى أن المبادرة تحظى بدعم من اللواء كمال الحسن، أحد الشخصيات الأمنية السابقة في النظام السوري، والمشمولة بعقوبات وزارة الخزانة الأميركية بموجب برنامج PAARSS.
هذا الارتباط أثار تساؤلات سياسية، خصوصاً في الأوساط المقرّبة من دمشق، التي رأت في المبادرة محاولة لإعادة تجميع شخصيات من النظام السابق في لبنان تحت ستار إنساني، وربما لاستخدامها لاحقاً كورقة ضغط سياسية ضد الحكومة السورية.
المجلس الإسلامي العلوي: “الملف إنساني بحت”
وفي المقابل، يرفض المجلس الإسلامي العلوي الطابع السياسي لهذه التحركات. وقال مدير مكتب رئيس المجلس، الشيخ أحمد عاصي، في حديث لـ”المدن”، إن التعامل مع النزوح السوري الجديد يجب أن يكون “انطلاقاً من الواجب الإنساني لا الحسابات السياسية”.
وأضاف عاصي أن “العلويين الذين لجأوا إلى لبنان يقيمون في مناطق ذات وجود علوي، ولا نية لديهم للبقاء بعد استقرار الأوضاع في بلادهم”، داعياً الدولة اللبنانية إلى التعامل مع النازحين الجدد كما تعاملت مع نازحي السويداء “من دون تمييز أو ازدواجية”.
وقال: “إذا كان بعض نازحي السويداء قد قُبل تسجيل أبنائهم في المدارس اللبنانية، فلن نقبل أن يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف واحد”.
وحول مبادرة “أهل البيت”، أكد عاصي أن نقل العائلات من الخيم إلى الشقق السكنية في عكار “تم بدافع إنساني بحت”، مضيفاً: “لا يعنينا إن كانت الجهة الداعمة مرتبطة بشخصية من النظام السابق طالما أن الهدف حفظ كرامة الناس”.
أما الاتهامات بشأن وجود “فلول النظام”، فيردّ عليها بالقول: “من السهل إطلاق التهم، لكن من يحدد من هم الفلول؟ كل من لا يشاركك الرأي يصبح فلولاً في نظر البعض، وهذه عقلية لبنانية مألوفة. نحن نراقب الوضع من زاوية إنسانية، ولن نتعاطى مع أي شخص مطلوب قضائياً”.
بلد صغير أمام موجات كبيرة
يعرف لبنان أنه لا يملك رفاهية انتقاء من يعبر حدوده، فالجغرافيا والاضطرابات المحيطة تفرض عليه استقبال موجات بشرية متكررة من الجوار السوري. غير أن هذه الموجات باتت أكثر تعقيداً من ذي قبل، إذ لم تعد تقتصر على الانتماءات السياسية أو الطائفية، بل أصبحت انعكاساً لانقسام الداخل السوري بين معارضي الأمس ومعارضي اليوم.
وفي وقت يحاول فيه لبنان، المنهك سياسياً واقتصادياً، الحفاظ على توازنه الداخلي، تظلّ هذه التحركات محاطة بشكوك سياسية، خشية أن تتحول المبادرات الإنسانية إلى أدوات نفوذ جديدة في لعبة إقليمية لا يبدو البلد قادراً على تحمّل تبعاتها.
وهكذا يجد لبنان نفسه مجدداً بين نزوحَين: الأول من معارضي الأسد، والثاني من معارضي “الشرع”، وبينهما تتقاطع معاناة السوريين ومخاوف اللبنانيين، في بلدٍ أنهكته الأزمات ويخشى أن تتحول إنسانيته إلى عبء إضافي على كاهله.
اقرأ أيضاً:وفد سوري رفيع يصل إلى لبنان لبحث ملفات الموقوفين وترسيم الحدود وعودة النازحين