سوريا بلا هوية: كيف محيَ شعبٌ من السجلات؟

داما بوست -خاص

في سوريا، لا يكفي أن تولد لتكون موجودًا. إذ يبدو أن ورقة رسمية واحدة، أو بطاقة تعريفية بسيطة، باتت تفصل بين “الوجود” و”اللاوجود”. ومع توقف دوائر الأحوال المدنية (النفوس) عن العمل بعد سقوط نظام الأسد، بدأت واحدة من أخطر الأزمات المدنية في تاريخ البلاد. أزمة تتجاوز البيروقراطية، لتصل حد تهديد الهوية القانونية لملايين السوريين.

من دون أوراق.. أنت غير موجود:

في مجتمع يعتمد بشكل شبه مطلق على البيروقراطية الورقية، يعني غياب الوثائق الرسمية أن الفرد غير معترف به قانونيًا:

لا يستطيع السفر، لا يحق له التملك، لا يمكنه تسجيل أبنائه، ولا حتى دفن موتاه بشكل قانوني.

فمنذ تاريخ 8 كانون الأول 2024، توقفت دوائر النفوس عن إصدار الهويات المدنية من دون أي إعلان رسمي أو توضيح للأسباب. المواطن الذي فقد هويته خلال هذه الفترة لا يمكنه استخراج بدل ضائع، بل يضطر للاكتفاء بورقة “إخراج قيد” مؤقتة، تُجدد كل ثلاثة أشهر لإثبات وجوده.

شهادات حيّة من قلب الأزمة:

“فقدت حقيبتي، وفيها هويتي ودفتر العائلة وبعض الأوراق”، تقول “سيدة” لشبكة “داما بوست”: عندما توجهت إلى المخفر لإثبات الفقدان، وجدت الإجراءات معقدة للغاية وتستغرق أيامًا. وحين حاولت استخراج بدل ضائع من دائرة النفوس، كان الرد قاطعًا: “لا يوجد استخراج هويات أو دفاتر عائلة… ولا حتى تسجيل ولادات أو وفيات.”

مصدر رسمي داخل الدائرة أوضح لـ “داما بوست”: “حتى اليوم لا يوجد أي استخراج لهويات أو دفاتر عائلة، ولا نعلم إلى متى سيستمر هذا التوقف.”

عُدنا للتسجيل… بعد نصف مليون ولادة معلقة:

بعد توقف دام أكثر من سبعة أشهر، عادت دوائر الأحوال المدنية في أواخر حزيران الماضي لاستقبال معاملات تسجيل الولادات، والزواج، والطلاق، والوفيات.

وخلال هذه الفترة، قُدّر عدد الأطفال غير المسجلين بأكثر من نصف مليون طفل.

هذا التدفق الهائل خلق ضغطًا كبيرًا على المراكز، حيث يُجبر المواطن على الانتظار لساعات طويلة من أجل الحصول على “دور إلكتروني”، ثم ساعات إضافية داخل المبنى حتى يصل إلى الموظف.

ويُذكر أن مبنى النفوس العامة في شارع الثورة بدمشق، كان يُعاني أصلًا من الازدحام حتى في الظروف الطبيعية، فكيف بعد توقف خدماته لأشهر؟

مجازر بلا وثائق… وموتى بلا أسماء:

لم تقتصر الكارثة على الولادات، بل شملت أيضًا الوفيات. ففي مجازر الساحل السوري، مات الآلاف، ولم تُسجّل وفاتهم رسميًا.

“بعض العائلات أُبيدت بالكامل، وأخرى فقدت أوراقها الثبوتية تمامًا”، يؤكد أحد الناجين ممن فقد أقرباءه في تلك المجازر.

ويضيف: “دخل المسلحون إلى المنازل، وبعد تنفيذ عمليات القتل، سرقوا الهويات ودفاتر العائلة وجوازات السفر. لم أفهم السبب وقتها، ولكن لاحقًا علمت أن الأمر يرتبط بمحاولات تجنيس مقاتلين أجانب.”

هل كانت عملية منظمة لمحو هوية الضحايا وسرقة وجودهم القانوني؟

شهود لإثبات الزواج… فقط؟

في جولتنا داخل دائرة النفوس بدمشق، التقينا بسيدة تحمل طفلًا رضيعًا.

قالت إنها قادمة من مناطق المخيمات في الشمال، وتحاول إثبات نسب الطفل.

وأضافت: “لا أملك وثائق تثبت زواجي، لكنهم طلبوا مني إحضار اثنين من الشهود، وعندها يتم تثبيت الزواج وإثبات النسب.”

هنا يُطرح سؤال استقصائي جوهري:

هل من المعقول أن يُعتمد على شهادتين فقط لإثبات زواج في بلد يعاني من تزوير ممنهج وانقسامات قانونية؟

وهل كل القادمين من خارج مناطق سيطرة النظام السابق يمكنهم تسجيل أطفالهم وزيجاتهم بهذه السهولة؟ أم أن هناك فئات تُمنح امتيازات خاصة؟

وطن بلا سجل: أزمة هوية أم سياسة محو؟

ما يجري في سوريا اليوم ليس مجرد تعطل إداري أو نقص في الورق الرسمي، بل أزمة وجود حقيقية.

شعب كامل مهدد بأن يُمحى من السجلات، وتُعاد صياغة هويته وفق خطوط الجبهات لا نصوص القانون.

وفيما تسعى قوى متعددة لفرض واقعها على الأرض، يبقى المواطن السوري تائهًا بين: إدارات متوقفة، قوانين غير مفعّلة، وواقع يُدار بالورقة والقلم… لكن بلا حبر.

هل يمكن بناء مستقبل من دون اعتراف؟

الهوية ليست مجرد بطاقة، بل مدخل للحياة: العمل، الزواج، التعليم، السفر، والدفن بكرامة.

وفي ظل غياب الوثائق، كيف يمكن الحديث عن “مصالحة وطنية” أو “إعادة إعمار” أو حتى “عودة اللاجئين”؟

إن أول خطوة لبناء أي مستقبل، هي الاعتراف بوجود الإنسان قانونيًا.

وما لم يتم ذلك، فإن ما يُبنى على أرض سوريا اليوم، سيبقى بلا أساس… كهوية بلا رقم وطفل بلا اسم …

إقرأ أيضاً: دمشق بعد السقوط: فوضى ثقافية واجتماعية تُهدد العاصمة

إقرأ أيضاً: زيارة الشرع إلى نيويورك.. ضجيج دبلوماسي في الخارج وتعقيدات بلا حلول في الداخل: سورية إلى أين؟

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.