سوريا بعد الحرب: هل بدأت المواجهة الكبرى مع أنقاض الدولة؟

هذه اللحظة ليست فقط فرصة، بل امتحان عسير لإرادة سياسية واقتصادية طالما تم تأجيلها، فهل هناك ما يكفي من الرؤية والموارد لإعادة بناء نظام اقتصادي مستقر؟ وهل يكفي تطبيع خارجي دون إصلاح داخلي؟

سؤال جوهري يمكن صياغته بشكل قاس، فما قيمة أي إنعاش مالي في اقتصاد تآكلت مؤسساته، وتلاشت شفافيته، واستُنزفت موارده البشرية؟ فالأرقام لا تعني شيئا ما لم تُترجم إلى قدرة إنتاج حقيقية، وحوكمة فعالة، وشبكة أمان تحمي الأضعف.

إقرأ أيضاً: تقرير البنك الدولي: تحديات وآفاق الاقتصاد السوري في عام 2025

من الطفرة إلى السقوط: ما الذي جرى؟

قبل العام 2011، كانت سوريا تُصنّف بين الاقتصادات الناشئة بقوة، سجل الناتج المحلي نموا بأكثر من5%  سنويا، وتراجعت معدلات البطالة والتضخم، لكن اندلاع الحرب دمّر أكثر من 60% من البنية التحتية، وأدى إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى ربع قيمته الأصلية، ووفق تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أما الخسائر المباشرة وغير المباشرة فبلغت نحو 800 مليار دولار حتى نهاية 2024.

هذا الانهيار الشامل لم يكن مجرد مسألة أرقام، بل فجوة مؤسساتية شلّت الدولة، وأجهزت على القطاع الخاص، وخلخلت سلاسل الإمداد الحيوية، كما تآكلت الثقة في النظام المصرفي، وتحولت معظم المعاملات إلى السوق السوداء.

تذبذب الليرة: بوادر تحسُّن أم خداع بصري؟

في مطلع 2025، سجّلت الليرة السورية تحسنا ملحوظا أمام الدولار، إذ انخفض سعر الصرف في السوق الموازية من 12,000 إلى نحو9,800ليرة، وتفسير هذا الانتعاش يكمن في عوامل متعددة:

  • تجفيف الأسواق من العملية المحلية.
  • عودة جزئية للتعامل مع بعض المؤسسات الدولية.
  • انخفاض نسبي في الطلب الداخلي على الدولار بفعل تراجع القدرة الشرائية.

لكن استقرار العملة لا يعني انتعاشا اقتصاديا، فالتحسن الحالي أقرب إلى مهدّئ موضعي، لا إلى إصلاح بنيوي، فبدون بنوك شفافة، ومؤسسات إنتاج، واستثمار حقيقي في الموارد البشرية، لا مستقبل لهذا الاستقرار.

📊التضخم المتراجع: أرقام من دون أثر؟

بلغ معدل التضخم في يناير 2025 نحو 6.4%، للوهلة الأولى، يبدو هذا وكأنه نصر للسياسات النقدية، لكن النظرة أعقد:

  1. ما مصدر هذا الانخفاض؟ إذا كان بفعل إغراق السوق بسلع مدعومة أو استيراد مفرط، فهذا لا يبني اقتصادا.
  2. هل الأرقام تعكس واقعًا؟ حسب  Numbeo(الموقع الإلكتروني العالمي) يحتاج المواطن السوري دخلا شهريا لا يقل عن 400 دولار لتغطية الحاجات الأساسية، بينما الدخل الفعلي يتراوح وسطيا ما بين 90 إلى 100 دولار بعد الزيادة الأخير
  3. ما الأثر الحقيقي على الحياة؟ انخفاض التضخم لم يُترجم إلى تحسّن في القدرة الشرائية، ما زالت الأسعار مرتفعة، والأجور مجمّدة.

أزمة المعيشة: اختناق اقتصادي يومي

يعيش المواطن السوري في مشهد اقتصادي متناقض، فآجار شقة الصغيرة بمساحة 45 مترا مربعا تكلف 141 دولارا شهريا، والخدمات تتجاوز 40 دولارا، في حين لا يتجاوز متوسط الدخل 100 دولارا، وهذا الواقع هو ترجمة حية لـ”الهشاشة البنيوية”، فمع تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي، أصبح السوق يحدد كل شيء، حتى البقاء.

المسألة ليست في التضخم، بل عن اقتصاد يتغذى على العجز العام، فالندرة تتحول إلى أداة لتوليد أرباح من جيوب المنهكين، غياب نظام حماية اجتماعية حقيقي يعمّق هذا التدهور.

الانفتاح الاقتصادي: فرصة أم فخ؟

مع تخفيف العقوبات الأمريكية خلال إدارة ترامب وإعادة التواصل مع النظام المالي العالمي، بدأت سوريا تظهر على خارطة الفرص مجددا:

  • عودة محدودة لنظام SWIFT.
  • توقيع مشاريع طاقة وإعمار تفوق مليارات دولار.
  • اهتمام خليجي وأوروبي مبدئي بالاستثمار.

لكن أي انتعاش لا يقوم على إصلاح مؤسساتي فهو مؤقت:

  1. يجب إعادة هيكلة البنوك وتحقيق الشفافية.
  2. خلق بيئة قانونية تحمي المستثمر والمواطن.
  3. دعم القطاعات المنتجة لا المستوردة.

من دون ذلك، ستظل الأموال تتبخر في حلقة الفساد والمحاباة.

الفجوة الاقتصادية الداخلية: مركز مُثقل، وأطراف مرنة

تشير تقارير Reuters إلى تباينات في الأداء الاقتصادي بين المناطق السورية، حيث تنشط التجارة والاستثمار بوتيرة مختلفة من منطقة لأخرى، وتعتمد بعض المناطق على هياكل أكثر مرونة وكفاءة في التعامل مع السوق مقارنة بالمركز الإداري، وهذا التفاوت لا يعود فقط إلى السياسات، بل إلى بنية اقتصادية غير متوازنة نشأت خلال سنوات الصراع.

غياب إدارة اقتصادية موحدة وشاملة يزيد من تعقيد الصورة، وبدلا من إصلاح هذا التفاوت، يتم تغطيته عبر مبادرات شكلية لا تمس العمق الإنتاجي المحلي.

بين الواقع والتجميل

هناك فراغ هائل بين مؤشرات الاقتصاد الكلي وواقع الناس، فانخفاض التضخم وثبات سعر الصرف لا يغني عن غياب مؤسسات حقيقية تضمن العدالة والكفاءة، واستثمار في التعليم والتدريب، وشراكة عادلة مع القطاع الخاص، إضافة لبرامج دعم للفقراء والمعوزين.

ليس هناك وصفة سحرية لإنقاذ الاقتصاد السوري، لكن هناك مبادئ لا غنى عنها لأي نهوض، فهناك ضرورة لإرادة سياسية للإصلاح تتجاوز النخبة والريع، وشفافية في القرار الاقتصادي تمنع استنزاف الموارد، ولا بد من إشراك القوى المحلية في التنمية لا تهميشها، والأهم والأساس إعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.

بدون ذلك، كل تقدم سيكون شكليا والسؤال الحقيقي هل نعيد بناء وطن، أم نجمّل خرابا لا يزول؟

 

إقرأ أيضاً: اقتصاد الظل في سوريا: من شريان حياة اضطراري إلى رهان للتعافي الاقتصادي؟

حساباتنا:فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.