داريا نموذجاً.. ضياع السجلات العدلية يهدد ممتلكات آلاف السوريين
تواجه آلاف الأسر السورية مأزقاً قانونياً وإنسانياً جديداً، بعدما أدى تلف وضياع سجلات الوكالات العدلية في عدد من المدن إلى فقدان وثائق ملكياتهم لعقارات وممتلكات، ما جعل كثيرين منهم عاجزين عن التصرف بمنازلهم أو إثبات حقوقهم أمام الجهات الرسمية.
فقد أصدرت وزارة العدل السورية مؤخراً تعميماً يحدد الآليات المؤقتة لترميم السجلات التالفة في دوائر الكتّاب بالعدل، وُصف بأنه “خطوة إسعافية” لكنها تبقى محدودة التأثير أمام حجم الكارثة. فالحرب التي اجتاحت البلاد بين عامي 2012 و2018 تسببت بإحراق أو تلف آلاف السجلات، لا سيما في المدن التي شهدت معارك طويلة وحصاراً خانقاً مثل داريا بريف دمشق.
داريا.. المدينة التي فقدت أوراقها
يؤكد سكان من داريا في أحاديث لـ“المدن” أنهم لا يمتلكون اليوم أي مستند رسمي يثبت ملكياتهم لشققهم السكنية، بعد احتراق سجلات الكاتب بالعدل بين عامي 2013 و2016. ويقول المحامي جلال شعيب، المطلع على الملف، إن عدد السجلات المحروقة في محكمة داريا تجاوز 1500 سجل عدلي، كانت تتضمن وكالات بيع وشراء وعقود ملكية لمئات المالكين.
ويشرح شعيب أن وظيفة الكاتب بالعدل كانت تقتصر على توثيق تعاملات البيع والشراء بموجب وكالات عدلية غير قابلة للعزل، وهو ما جعل كثيرين يعتمدون عليها بديلاً عن التسجيل العقاري الرسمي المعروف بـ“الطابو”، نتيجة ضعف الوعي القانوني وصعوبة الإجراءات.
ومع احتراق تلك السجلات، بات المالكون أمام أزمة معقدة، خصوصاً في الأبنية الطابقية غير المفرزة طابقياً، والتي لا تملك قيوداً عقارية دقيقة. ويضيف شعيب أن “الحل المؤقت المتبع حالياً هو تثبيت الوكالات الممهورة بالختم الأزرق بقرار من المحكمة، ثم رفع دعوى لنقل الملكية من وكالة عدلية إلى حكم قضائي”، لكنه يلفت إلى أن هذا الإجراء يثقل السجل العقاري بإشارات دعاوى كثيرة، وقد يفتح الباب أمام عمليات تزوير جديدة.
وثائق ضاعت بالنزوح
تتضاعف المشكلة لدى النازحين الذين فقدوا وثائقهم بالكامل أثناء فرارهم من مناطق القتال. فالكثير من سكان داريا تركوا أوراق الطابو والوكالات داخل منازلهم، لتتعرض لاحقاً للسرقة أو التلف.
من هؤلاء “مروان”، الذي غادر مدينته في نهاية عام 2012 تاركاً أوراق ملكياته خلفه. يقول لـ“المدن” إنه بعد عودته عام 2015 لم يجد أي أثر لها، موضحاً أنه “يعاني اليوم من صعوبة بيع عقاراته، إذ يرفض المشترون إتمام أي صفقة لغياب الوثائق الرسمية التي تثبت ملكيته”.
آلية الترميم الجديدة
وزارة العدل أوضحت في تعميمها الأخير أن عملية الترميم مؤقتة إلى حين صدور تشريع دائم. وتشترط الآلية لقبول أي طلب أن تتوافر نسخة أصلية مصدقة عن الوثيقة المفقودة، وإلا يُحال مقدم الطلب إلى القضاء المختص. كما يُطلب من الكاتب بالعدل إشعار جميع الأطراف المرتبطة بالوثيقة لإبداء اعتراضاتهم خلال ثلاثين يوماً من تاريخ التبليغ.
وفي حال عدم ورود اعتراض، تُحال القضية إلى القاضي البدائي الأول الذي يتحقق من صحة التواقيع والأختام قبل إصدار قرار القبول أو الرفض.
القانون 33 ومخاوف من التلاعب
يستند بعض المحامين إلى القانون رقم 33 الصادر في تشرين الثاني 2017، الذي سمح بإعادة تكوين الوثائق العقارية المفقودة أو المتضررة عبر مسارين إداري أو قضائي. غير أن القانون أثار مخاوف واسعة لأنه لم يراعِ أوضاع المهجّرين واللاجئين الذين لا يستطيعون الحضور أو توكيل محامين، واشترط وجود صاحب المصلحة أو وكيله القانوني للاعتراض على إعادة التكوين.
ويرى مختصون أن هذا الشرط، إلى جانب الثغرات في التحقق من صحة الوثائق، جعل القانون منفذاً محتملاً للتلاعب بملكيات العقارات، خصوصاً في الحالات التي لم تُسجل عقودها في السجلات العقارية، بل اكتفى أصحابها بتوثيقها عبر وكالات بيع غير قابلة للعزل.
أزمة تتطلب حلاً وطنياً
رغم التحركات الجزئية لوزارة العدل، تبقى الأزمة أبعد من مجرد مسألة إدارية. فخسارة السجلات العدلية لا تعني فقط ضياع وثائق قانونية، بل تهدد حق الملكية لآلاف السوريين الذين عاشوا الحرب بكل أبعادها. وبين غياب التشريعات الواضحة وصعوبة الوصول إلى الوثائق الأصلية، تبدو الحاجة ماسة إلى حل وطني شامل يضمن حقوق الملاك، ويمنع في الوقت ذاته أي استغلال أو تزوير قد يطال أملاك الغائبين والمهجرين.
اقرأ أيضاً:أزمة النفايات تتعمق في حلب.. وسط واقع معيشي متدهور