الصرافة في سوريا بين العلنية والتحكم الخفي للسوق السوداء
تشهد سوريا، منذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، تحولاً اقتصادياً لافتاً تمثّل في الانتشار الواسع لمحلات الصرافة المرخصة في معظم المحافظات، بعد أن كانت هذه المهنة لسنوات طويلة محظورة أو محاطة بقيود أمنية مشددة.
في العقود السابقة، كان مجرد التعامل بالعملة الأجنبية خارج القنوات الرسمية كفيلاً بتعريض صاحبه للاعتقال بتهمة “الاتجار بالعملة”، في وقت كانت السوق السوداء الوجهة الوحيدة للمواطنين الراغبين بتبديل العملات، وسط مخاطر متعددة من النصب والملاحقة وحتى الخسارة المالية.
أما اليوم، فقد باتت مكاتب الصرافة جزءاً ثابتاً من المشهد الاقتصادي الجديد، إذ تُعرض أسعار الصرف بشكل علني على واجهات المحلات، ما منح التعاملات النقدية طابعاً أكثر شفافية مقارنة بالمرحلة السابقة. ومع ذلك، يرى اقتصاديون أن هذا الانفتاح ما يزال شكلياً إلى حدّ كبير، في ظل استمرار سيطرة السوق السوداء على تحديد الأسعار الفعلية، وغياب سلطة نقدية مركزية تضبط السوق وتمنع التلاعب.
من “تحت الطاولة” إلى العمل العلني
قبل التغيرات السياسية الأخيرة، كان الصرافون يعملون في الخفاء، ويتعرضون لملاحقات أمنية متكررة. كثير منهم اضطر لدفع رشى لتفادي السجن أو إغلاق محله، بينما كان سعر الصرف يتحدد وفق مزاج السوق والمضاربات الشخصية.
لكن بعد المرحلة الانتقالية، منحت الحكومة السورية تراخيص رسمية لمحلات الصرافة، في خطوة وُصفت بأنها “تحرير اقتصادي متأخر” أتاح للمهنة أن تعمل بشكل علني ومنظم للمرة الأولى منذ عقود.
يقول مازن خليل، صاحب مكتب صرافة في دمشق، إن “تنظيم المهنة ساعد فعلاً على ضبط السوق وتوحيد الأسعار داخل المدينة بنسبة كبيرة”، مضيفاً: “اليوم المواطن بيشوف السعر مكتوب قدام المكتب، وما في تلاعب، قبل كنا نشتغل بالخوف، وكان الدولار يطلع وينزل بدون منطق.”
ويرى خليل أن انتشار المكاتب القانونية خلق نوعاً من المنافسة الإيجابية ساعدت على استقرار نسبي في الأسعار، رغم استمرار الفوارق بين المحافظات التي قد تصل إلى نحو 100 ليرة سورية للدولار الواحد، نتيجة اختلاف العرض والطلب وكلفة النقل.
دمشق.. واجهات شفافة وسوق سوداء متحكمة
في العاصمة دمشق، تنتشر المكاتب النظامية للصرافة بشكل واسع، لا سيما في مناطق الحمراء والحريقة وساحة المحافظة. واجهاتها الزجاجية تُظهر الأسعار اليومية بشكل واضح، لكن العاملين في هذا القطاع يؤكدون أن السوق السوداء ما تزال المرجع الحقيقي لتحديد السعر.
يقول سامر الطويل، موظف في أحد مكاتب الصرافة في شارع الحريقة، إن السوق تتحرك وفق إشارات من مجموعات خاصة على تطبيقَي “تلغرام” و”واتساب”، وليس وفق تسعيرة المصرف المركزي: “السوق ماشي على الإشارات من المجموعات، المركزي ما عاد المرجع، السعر الحقيقي هو اللي بتحدده المضاربات أونلاين.”
هذا الواقع يجعل تثبيت الأسعار أمراً شبه مستحيل، إذ تتبدل الأرقام خلال ساعات قليلة تبعاً للتداولات غير الرسمية.
المواطن بين الشفافية الشكلية والتعامل الواقعي
من جهتهم، يقول مواطنون إن الشفافية المعلنة أمام مكاتب الصرافة لا تعكس بالضرورة واقع السوق. ويؤكد عبد الرحمن السلطي، وهو موظف حكومي يتلقى حوالة شهرية من الخارج، أن الأسعار المعلنة مجرد “واجهة”: “كل مكتب عنده تسعيرته الفعلية، بيقولك هذا السعر الرسمي، بس لما بدك تصرف، بيشتغلوا على سعر السوق. يعني الأسعار المعلنة شكلية لا أكثر.”
ويضيف أن هذا التفاوت يجبره على متابعة الأسعار بشكل يومي عبر الإنترنت ومجموعات السوق، لتحديد الوقت المناسب لتبديل عملته أو سحب حوالته.
ورغم التنظيم القانوني الجديد وانتشار المكاتب الرسمية، تبقى السوق النقدية السورية أسيرة لعبة المضاربة والعرض والطلب، في ظل غياب سلطة نقدية فعّالة قادرة على ضبط الأسعار وتوحيد المرجعية النقدية في البلاد.
اقرأ أيضاً:سوق بيع الأرصدة المجمدة في البنوك السورية: تداعيات أزمة السيولة