بعد فضائح المساعدات.. دمشق أمام اختبار مكافحة الفساد الإغاثي
تتصدر مكافحة الفساد في العمل الإنساني أولويات المرحلة المقبلة بالنسبة للحكومة السورية، التي تجد نفسها أمام استحقاق عاجل يتمثل في استعادة ثقة المجتمع الدولي والجهات المانحة، وبلورة آلية شفافة تضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها في ظل مشهد اقتصادي واجتماعي بالغ القسوة.
تقديرات رسمية تشير إلى أن معدلات الفقر في سوريا تتراوح بين 70 و90% من السكان، بحسب تصريحات سابقة لوزير المالية، فيما تستعد الحكومة لإطلاق برنامج وطني لمكافحة الفقر يعتمد جزئياً على دعم المنظمات الإنسانية الدولية، ريثما تتوافر بيئة اقتصادية قادرة على توليد فرص العمل كأرضية لمواجهة البطالة والفقر معاً.
استحقاق عاجل وواقع معقد
يرى خبراء ومتابعون أن من الضروري أن تبادر الحكومة إلى إعلان إجراءات واضحة تضمن وصول الدعم الإغاثي بعدالة، وتشجع المنظمات الدولية على مواصلة العمل داخل البلاد بثقة أكبر، بعد سنوات من تفشي الفساد في هذا القطاع على نطاق واسع.
فالعمل الإغاثي في سوريا، كما يقول أحد الصحفيين الذين أعدّوا تحقيقاً استقصائياً عن “الفساد الإغاثي” في مناطق المعارضة آن ذاك، لم يكن بمنأى عن التجاوزات في مختلف المناطق، سواء تلك التي كانت تحت سيطرة النظام أو المعارضة، إذ تحوّل بعض نشاطه إلى تجارة سوداء بالمساعدات والسلع المخصّصة للمتضررين. لأن الفساد لا يعترف بحدود ولا بإيديولوجيات وله “جمهوريته الخاصّة” العابرة للشرائع والأعراف.
وفي مناطق سيطرة الحكومة، لم يكن المشهد مختلفاً. إذ تكررت المشاهد ذاتها من تلاعب وتجاوزات، رغم النفي الرسمي لأي حديث عن فساد. وتصدرت مؤسسات مثل الهلال الأحمر السوري والأمانة السورية للتنمية المشهد، إلى جانب صندوق الإغاثة التابع لوزارة الإدارة المحلية الذي خُصصت له اعتمادات تصل إلى 50 مليار ليرة سورية، إضافة إلى عشرات الجمعيات الخيرية العاملة تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
زلزال شباط/فبراير 2023 كشف جانباً من هذه الإشكاليات، مع ورود تقارير عن سوء إدارة وفساد في توزيع المساعدات التي تدفقت من دول عربية، بينها الإمارات، وهو ما أثار موجة استياء واسعة.
أرقام مثيرة للجدل
تشير دراسة أعدّها “المركز العربي لدراسات سوريا” إلى أن عدد منظمات المجتمع المدني المسجلة في البلاد بلغ نحو 1486 منظمة منذ عام 2001، وهو رقم وُصف بالصادم.
تراجع هذا العدد خلال “ربيع دمشق” ثم عاد إلى الارتفاع بعد 2011، حيث ظهرت مئات الجمعيات والمنظمات في مناطق المعارضة ركّزت نشاطها على الجوانب الإنسانية والإغاثية، لا سيما في أرياف حلب وإدلب.
واعتمدت هذه المنظمات على قوانين مختلفة مثل قانون الجمعيات السوري رقم 93 لعام 1958، والتركي رقم 5253 لعام 2004، ما أدى إلى تداخل تشريعي معقّد.
أما التمويل فكان في معظمه من تبرعات رجال أعمال سوريين في الخارج، وخصوصاً من الجاليات في الولايات المتحدة، إلى جانب دعم تنظيمي دولي برز بعد مؤتمر بروكسل عام 2017.
ازدهر عمل هذه المنظمات بين 2015 و2019، ثم تراجع مع بداية مسار “التعافي المبكر” عام 2021، قبل أن يعود جزئياً عقب كارثة الزلزال عام 2023، ليشهد انكماشاً جديداً مع تراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري وانشغال العالم بأوكرانيا وغزة.
وبسبب ضعف الأطر القانونية والرقابية، اتسم عمل معظم المنظمات بالعشوائية التي سمحت بانتشار الفساد على نطاق واسع، دون محاسبة واضحة أو تدقيق شفاف.
آليات مقترحة للحوكمة والرقابة
المحامي بسام صبّاغ، المتخصص في القانون الدولي الإنساني، يرى أن الحل يبدأ بإرساء ثلاث ركائز أساسية: الحوكمة، السلسلة التشغيلية، والشفافية المجتمعية.
ويقترح إنشاء سجل وطني محدّث للمنظمات والشركاء المحليين يعتمد مبدأ “اعرف عميلك” المؤسساتي، مع سياسات واضحة لتضارب المصالح ومدوّنة سلوك ملزمة.
كما يدعو إلى نظام تراخيص مشروط بالأداء يربط التجديد بتقييمات امتثال خارجية، ووضع معايير موحّدة للمشتريات والمناقصات العلنية، إضافة إلى قوائم سوداء للمورّدين وتدقيقات مفاجئة للمستودعات.
ويشدد صبّاغ على ضرورة وجود مسؤول امتثال داخل كل منظمة، وقنوات إبلاغ محمية ضد الفساد، وتتبّع علني للقضايا والنتائج.
تنظيم السلاسل التشغيلية
في الجانب التشغيلي، يوصي صبّاغ بتوحيد آليات استهداف المستفيدين عبر سجل اجتماعي موحد يعتمد بيانات البلديات والمخاتير والمدارس والمراكز الصحية، مع استخدام رموز تعريفية (QR) لتقليل الازدواجية.
كما يدعو إلى اعتماد أدوات دفع إلكترونية وبطاقات مسبقة الدفع، بما يتيح تتبّعاً رقمياً لمسار المساعدة من المستودع إلى المستفيد، تحت رقابة ميدانية من طرف ثالث وتدقيقات مفاجئة ومسوحات عشوائية بعد التوزيع.
ولمنع تسرب السلال الإغاثية إلى السوق السوداء، يقترح مراقبة الأسعار وربط الكميات المصروفة بحركة المخزون، مع إدراج بنود جزائية صارمة في العقود ونشر تفاصيلها المالية بشكل دوري.
الشفافية والمساءلة
يرى صبّاغ أن الشفافية شرط أساسي لاستعادة الثقة، وذلك عبر بوابة وطنية تُنشر فيها خرائط المشاريع وموازناتها ومؤشرات أدائها، إلى جانب منظومة شكاوى مفتوحة تشمل خطاً ساخناً وقنوات رقمية وصناديق ميدانية، مع تقارير فصلية عن النتائج.
كما يدعو إلى إشراك لجان من المجتمع المحلي في التحقق من قوائم المستفيدين قبل وبعد التوزيع.
ويقترح اعتماد مؤشرات أداء دقيقة مثل:
-
نسبة الشكاوى المعالجة خلال 14 يوماً،
-
معدل الازدواجية المكتشفة،
-
الفارق بين الأسعار التعاقدية والسوقية،
-
وعدد عمليات التدقيق المفاجئة ونتائجها.
خريطة فقر جديدة
فيما يتعلق بآليات الاستهداف، يرى صبّاغ أن سوريا بحاجة إلى خريطة فقر جديدة تعكس الواقع بعد التحولات الاقتصادية المتسارعة، عبر مسوحات أسرية دورية تشمل الدخل والإنفاق والخدمات والصحة والتعليم والأمن الغذائي.
كما يقترح ربط بيانات الوزارات والمنظمات بواجهات موحدة تتيح تبادل المعلومات وتمنع ازدواجية المساعدات، إلى جانب إنشاء خريطة فقر تفاعلية تُحدّث سنوياً وتوجّه برامج الدعم النقدي والغذائي.
نحو استعادة ثقة المانحين
يؤكد صبّاغ أن التنظيم والشفافية من شأنهما تحفيز “السخاء الآمن” للمانحين، إذ كلما اتضحت القواعد وطبقت العدالة زادت ثقة الممولين والقطاع الخاص والجاليات السورية في الخارج، ما يؤدي إلى تحسين جودة المساعدات وتقليل الهدر.
ويختتم بدعوة الحكومة إلى تسهيل المبادرات الإيجابية من خلال نوافذ ترخيص سريعة، وإعفاءات جمركية وضريبية للمساعدات الموثقة، وإنشاء قنوات مصرفية منخفضة المخاطر ومنح صغيرة لدعم الابتكار المجتمعي.
اقرأ أيضاً:كشف خيوط الفساد: إحالة مسؤولين بارزين للجنايات الاقتصادية في ملف STG الروسية