اتفاق الغاز بين سوريا وأذربيجان: نفوذ إقليمي أم صفقة طاقة سياسية؟

يقول موقع سوريا الغد من حيث الظاهر، يمثل الاتفاق خطوة كبيرة لتخفيف أزمة الكهرباء الخانقة التي ترهق السوريين منذ أكثر من عقد، وسط انهيار شامل في البنية التحتية، وتراجع مزمن في القدرة الإنتاجية، غير أن ما يُروّج له كحل تقني عاجل، يُخفي في العمق ديناميات جيوسياسية معقدة تُعيد رسم خطوط المصالح والتحالفات في الشرق الأوسط، وتحمل في طياتها رهانات اقتصادية وأمنية تتجاوز بكثير مسألة إمداد الكهرباء.

انهيار منظومة الكهرباء السورية

شهدت المنظومة الكهربائية في سوريا منذ عام 2011 انهيارا تدريجيا بلغ حدّ الانقطاع شبه الكامل، فانخفضت القدرة الإنتاجية من نحو 9,500 ميغاواط إلى ما يقارب 1,600 ميغاواط فقط حاليا، أي ما يعادل أقل من 20% من القدرة التي كانت متوفرة قبل الحرب.

هذا التراجع الكارثي ترافق مع دمار واسع في البنية التحتية، إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف شبكة التوزيع والتحويل ما تزال خارج الخدمة، في حين تصل خسائر النقل والتوزيع إلى نحو 26% من إجمالي الطاقة المنتجة.

في ظل هذا الواقع، تعيش البلاد حالة من الشلل الكهربائي، حيث لا تتجاوز ساعات التغذية المنزلية في معظم المناطق بين 3 إلى 4 ساعات يوميا، مع اعتماد شبه كلي على المولدات الخاصة، التي لا توفر حلا مستداما نظرا لتكاليفها العالية وانعكاساتها البيئية والصحية، فالحاجة إلى مصادر طاقة خارجية ليست مجرد خيار، بل ضرورة وجودية تمسّ استقرار المجتمع واقتصاده وأمنه اليومي.

تفاصيل الاتفاق الغازي الجديد

الاتفاق الذي وُقّع بين سوريا وأذربيجان، برعاية تركية، ينص على توريد 1.2 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، ويتم ضخها عبر خطوط الأنابيب التركية ابتداء من منطقة كيليس إلى الداخل السوري، وتحديدا نحو محطات الإنتاج في حلب، ووفق ما أُعلن، هناك خطة تصاعدية لرفع حجم التوريد تدريجيا ليصل إلى 2 مليار متر مكعب سنويا في المستقبل القريب، ما يعكس طموحا لتثبيت العلاقة الطاقية على أسس استراتيجية طويلة الأمد.

أما على المستوى التقني، فتُخصص هذه الكمية لتشغيل محطات توليد كهرباء بطاقة إجمالية تصل إلى 1,200 ميغاواط، وهي طاقة من شأنها أن تُحدث فرقا ملموسا في شبكة التغذية، عبر رفع ساعات الكهرباء من متوسط 3–4 ساعات حاليا إلى نحو 10 ساعات يوميا، وهذا التحسن، إن تحقق بشكل مستقر، لا يعيد فقط بعض التوازن إلى المشهد الخدمي، بل يُعتبر أيضا حجر أساس لإعادة تشغيل قطاعات اقتصادية متوقفة بفعل الانقطاع المزمن للكهرباء.

تكلفة مرتفعة في اقتصاد هش

من الناحية الاقتصادية، تبلغ التكلفة السنوية المقدرة للكمية الأولية، بناءً على سعر السوق التركي الفوري، نحو 490 مليون دولار، وهو رقم كبير في اقتصاد سوري هش، لكنه مرشح للتخفيض في حال شمل الاتفاق دعماً حكوميا أو تسعيرا تفاوضيا خاصا.

لكن ما وراء الأرقام، تبرز ملاحظات جوهرية حول جدارة الاتفاق وشفافيته، إذ لم تُنشر حتى الآن أي تفاصيل قانونية أو تجارية دقيقة حول مدة الاتفاق، أو آليات التسعير والدفع، أو الضمانات التنفيذية، فكل ما ظهر عبر الإعلام هو أن التوقيع جرى في ظل حكومة سورية جديدة تشكّلت بعد سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024، وضمن محور سياسي يضم تركيا وقطر وأذربيجان، ما يثير تساؤلات حول مدى استقلالية القرار السوري في هذا الملف.

غياب الرقابة المستقلة

غياب الضمانات الرقابية المستقلة على تنفيذ الاتفاق الثلاثي بين سوريا وأذربيجان وتركيا يطرح علامة استفهام كبيرة حول مدى استدامته، ويقوّض بشكل واضح من مصداقيته في الأوساط الدولية، فلا توجد حتى الآن أي آلية معلنة لمراقبة تنفيذ البنود، أو هيئة تحكيم طاقية تشرف على مدى التزام كل طرف بتعهداته، سواء من حيث الكميات المورّدة أو الجداول الزمنية أو آليات الدفع، كما لم تُعلن أي جهة مستقلة، سواء من الوكالات الأممية أو منظمات الطاقة الدولية، عن دور إشرافي أو تقني في تنفيذ الاتفاق.

عند المقارنة باتفاقيات طاقة جرت في حوض شرق المتوسط، مثل مشروع “إيست ميد” لنقل الغاز من “إسرائيل” وقبرص إلى أوروبا عبر اليونان، أو اتفاقيات مصر مع الاتحاد الأوروبي لتسييل الغاز وتصديره، نجد أن معظم تلك المشاريع كانت مشروطة برقابة مالية وتقنية من الاتحاد الأوروبي، وخضعت لتدقيق بيئي واقتصادي واضح، بل وتضمنت في بعض الحالات شراكات مع شركات طاقة عالمية مثل “إيني” الإيطالية أو “توتال” الفرنسية.

أما في الحالة السورية، فالافتقار إلى مراجعة مستقلة، سواء من شركات تدقيق محايدة أو من منظمات شفافية دولية، يجعل من الأرقام المعلنة عرضة للتشكيك، ويفتح المجال أمام توظيف الاتفاق سياسيا أكثر مما هو اقتصادي، خصوصا في ظل تحالف إقليمي تتداخل فيه الحسابات الجيوسياسية أكثر من المصالح التقنية البحتة.

بارقة أمل: تحوّل محتمل في سياسة الطاقة

يمكن النظر إلى الاتفاق بوصفه مؤشرا على توجه جديد في سياسة الطاقة السورية، يتمثل في السعي لتنويع الشركاء والانفتاح على مصادر بديلة، بعد سنوات من الاعتماد المركز على روسيا وإيران، وهذا التوجه لا يقتصر على الجوانب التقنية أو الاقتصادية، بل يعكس أيضا تحولات في التموضع الإقليمي لسوريا، ومحاولة لإعادة ضبط علاقاتها في ضوء التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد والمنطقة مؤخرا.

إشراك قطر في تمويل مشاريع طاقة كبرى تتجاوز قيمتها 7 مليارات دولار يُعد خطوة لافتة في هذا السياق، لكنه يثير في المقابل تساؤلات حول طبيعة الدور الذي ستلعبه الجهات الممولة، وحدود تأثيرها على مسارات القرار في قطاع حيوي واستراتيجي، فالانفتاح على شركاء جدد ربما يفتح آفاقا اقتصادية مهمة، لكنه في الوقت ذاته يتطلب ضمانات مؤسساتية واضحة تحفظ استقلالية القرار الوطني، وتمنع تحول علاقات الطاقة إلى أدوات نفوذ سياسي أو أدوات تفاوض غير متكافئة مستقبلاً.

الرهان لا يجب أن يكون على الغاز وحده، بل على قدرة سوريا على الاستفادة من هذا الاتفاق لبناء سياسة طاقة أكثر استقلالا واستدامة، ومشاريع الطاقة الشمسية الموازية، التي تُقدّر بتغطية 10% من الطلب الوطني، يمكن أن تمثل خطوة أولى نحو مزيج طاقي متوازن يقلل من الارتهان السياسي والاقتصادي للخارج.

الشفافية كمطلب سياسي ووطني

لكن هذا التحوّل لا يمكن أن ينجح دون شفافية، فالمواطن السوري، الذي أنهكته سنوات العتمة والانهيار، من حقه أن يعرف بشفافية من يوقّع الاتفاق؟ كم يدفع؟ ولمن؟ وما هي الضمانات بأن هذا الغاز لن يُستخدم كورقة ابتزاز سياسي في أي لحظة؟

الاتفاق مع أذربيجان ليس نهاية الأزمة، بل بدايتها الجديدة، ونجاحه ليس مرهون فقط بالتنفيذ الفني، بل بإرادة سياسية تضع مصلحة المواطن فوق كل تحالف أو صفقة.

في عالم الطاقة، لا وجود لصفقات مجانية، فالغاز الآتي من حقل شاه دنيز قد يُنير البيوت السورية، لكنه لن يُنير السياسة السورية ما لم تُفتح ملفات الشفافية والمساءلة والحوكمة الوطنية.

 

إقرأ أيضاً: الغاز الأذربيجاني يعزز ساعات الكهرباء في سوريا إلى 10 يومياً

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.