الحضور الروسي في سوريا بعد الأسد: ضياع استراتيجي أم سبات روسي محسوب؟

داما بوست -أسعد موسى

لم يكن الحضور الروسي في سوريا مجرد تدخل عسكري لدعم نظام بشار الأسد، بل مشروع استراتيجي أبعد من ذلك، رسمته موسكو بعناية منذ لحظة انخراطها العسكري عام 2015. كان الهدف المعلن محاربة “الإرهاب”، لكن التمركز في الجغرافيا السورية كشف بوضوح عن طموح جيوسياسي يتجاوز دمشق إلى البحر المتوسط، ومنه إلى عمق الشرق الأوسط.

ففي بلد لا يطل فقط على المتوسط، بل يشكّل نقطة وصل بين المشرق والخليج وتركيا، رأى الكرملين فرصة نادرة لحجز موقع متقدم في صراع النفوذ العالمي. ولعل تموضع القوات الروسية في سوريا منذ ذلك الوقت لم يترك مجالاً للشك: قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، مرفأ طرطوس البحري، ومراكز استطلاع وتنسيق عسكرية امتدت إلى ريف حماة ودير الزور. كانت الرسالة واضحة، وباتت أكثر وضوحاً بعد سقوط الأسد: روسيا هنا لتبقى، لا لدعم نظام الحكم.

قواعد ثابتة.. وحلفاء متبدّلون

مع سقوط نظام بشار الأسد في نهاية عام 2024، سقطت الفرضية الأساسية الظاهرة، التي بنت عليها روسيا تدخلها: بقاء النظام ضمانة لمصالحها. لكن المفارقة أن موسكو لم تظهر انزعاجاً كبيراً من هذا التحول، ولا حماسة للمشاركة في أي عمليات عسكرية لإنقاذ النظام في لحظاته الأخيرة. ما بقي ثابتاً هو اهتمامها بتأمين وجودها العسكري، لا من يحكم دمشق.

اليوم، وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على تحوّل السلطة في سوريا، لا تزال موسكو تحتفظ بقاعدتين استراتيجيتين: حميميم الجوية ومرفأ طرطوس البحري، وهما جوهرتا التاج في السياسة الروسية الشرق أوسطية. لا يوجد إحصاء دقيق لعدد المواقع الروسية العاملة حالياً، لكن المؤكد أن موسكو لم تغادر، بل اكتفت بضبط إيقاع وجودها بما يخدم أمنها القومي ومصالحها الدولية.

من كييف إلى دمشق: سلم الأولويات واضح

لا يمكن قراءة الأداء الروسي في سوريا بعد الأسد من دون وضعه في سياق الحرب الكبرى التي تخوضها موسكو على حدودها الغربية. فمع تصاعد المعارك في أوكرانيا، باتت كييف، لا دمشق، أولوية الكرملين القصوى. الموارد تُستنزف، والعقوبات تنهك الاقتصاد الروسي، والتورط في جبهة إضافية لا يبدو خياراً عقلانياً.

ويبدو أن الروس قد اختاروا الحد الأدنى في سوريا: الحفاظ على القواعد، والتنسيق مع من يحكم ما دامت المصالح محفوظة. فالعقيدة الأمنية الروسية لا تعترف كثيراً بالتحالفات العقائدية، بل بالتموضع والثقل الجيوسياسي. وهذا ما عبر عنه بوضوح وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، حين قال إن الروس امتنعوا عن التدخل خلال المعارك الأخيرة في حلب رغم قدرتهم على ذلك، مضيفاً: “روسيا تصرفت بعقلانية”.

حضور بلا مشروع؟

في المقابل، تطرح الوقائع أسئلة محرجة لموسكو: ما الذي تريده فعلاً من سوريا؟ فالتبادل التجاري بين البلدين لا يتجاوز 250 مليون دولار سنوياً، أي لا يرق إلى شراكة حقيقية. أما الاستثمار، فتميل كفته بوضوح نحو تركيا والخليج وأوروبا، وهو ما ظهر جلياً في العقود التي وقعتها دمشق مع شركات سعودية وإماراتية وفرنسية وتركية خلال الأشهر الماضية.

الأهم من ذلك، أن موسكو لا تملك قاعدة عسكرية أخرى في كامل الشرق الأوسط. ما يجعل من سوريا ورقتها الوحيدة للتموضع الإقليمي، ويفسر تمسكها الهادئ ببقاء وجودها العسكري دون الانخراط في التجاذبات السياسية اليومية. فبالنسبة لها، سوريا لم تعد ساحة صراع بقدر ما هي نقطة ارتكاز استراتيجية في صراعها الأكبر مع واشنطن والناتو.

قوة عسكرية راسخة رغم الانكفاء

رغم ما يبدو من فتور سياسي في تعاطي موسكو مع الملف السوري بعد سقوط النظام، إلا أن حضورها العسكري على الأرض لا يزال قوياً ويصعب تجاهله. إذ تحتفظ روسيا في سوريا بنحو 35  طائرة حربية، إلى جانب قوة بشرية تقدر بـ نحو 6 آلاف جندي وخبير عسكري، ما يجعلها من أكبر القوى الأجنبية انتشاراً على الأراضي السورية.
وبحسب تقارير ميدانية، تنتشر القوات الروسية في أكثر من 115 نقطة عسكرية، بعضها على تماس مع مناطق نفوذ أخرى كالقوات الأميركية في الشرق أو الجيش التركي في الشمال. ومع أن موسكو قامت بإعادة تموضع تكتيكي بعد سقوط النظام، إلا أن بنيتها القتالية لا تزال تحتفظ بقدرات ردع واشتباك لا يمكن الاستهانة بها، ما يثبت أن الكرملين، وإن خفف من انخراطه السياسي، لا ينوي التخلي عن الورقة السورية عسكرياً.

خريطة نفوذ بلا عمق سياسي

لكن هذا الخيار الروسي لا يخلو من التحديات. فالحضور العسكري دون نفوذ سياسي فعلي قد يحول موسكو إلى “قوة مراقبة”، لا فاعلة. ومع تنامي دور أنقرة والخليج، وتوجه السلطة السورية الجديدة نحو شراكات اقتصادية مع الغرب، تجد روسيا نفسها أمام مشهد يتغير من دون أن تكون شريكاً في صياغته.

في النهاية، يمكن القول إن موسكو لم تخرج تماماً من سوريا، لكنها أيضاً لم تعد كما كانت. بين صدمة أوكرانيا وضغط الاقتصاد، اختارت الكرملين الحفاظ على المكتسبات لا المغامرة في معارك جديدة. وقد يكون هذا السبات مؤقتاً أو دائماً، لكنه بالتأكيد يطرح سؤالاً كبيراً على السياسة الروسية: هل يكفي الظل للحفاظ على الحضور، في منطقة لا ترحم من يتراجع؟

إقرأ أيضاً: قسد تعرض على الروس ملء الفراغ الأمريكي في دير الزور

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.