شهدت سوريا أواخر العام الماضي تحولًا سياسيًا جوهريًا تمثّل بوصول سلطة انتقالية جديدة إلى الحكم، اتخذت نهجًا يقوم على تأسيس شرعيتها عبر الخارج، بدلًا من الاعتماد على الشرعية الشعبية الداخلية أو التوافق الوطني. وفي ظل بيئة إقليمية ودولية معقدة سريعة التغير ، تبرز زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى البيت الأبيض باعتبارها محطة مفصلية تُعيد رسم موقع سوريا وإعادة تعريف دورها في خريطة التحالفات الدولية ولا يمكن النظر إلى هذه الزيارة باعتبارها حدثًا بروتوكوليًا عابرًا بل تأتي في سياق استراتيجية واضحة تتبناها السلطة الجديدة تقوم على بناء شرعية سياسية دولية، انطلاقًا من إدراكها أن الأنظمة في الإقليم كثيرًا ما تشتق شرعيتها من الدعم الأميركي المباشر أو غير المباشر. ومن هنا، فإن الاعتراف الأميركي يمثل ركيزة أساسية في تثبيت موقع السلطة السورية الجديدة وتحصينها سياسيًا.
مسار اكتساب الشرعية الخارجية:
منذ تولّيها الحكم، انخرطت السلطة الجديدة في جهود دبلوماسية مكثفة لتأمين اعتراف خارجي واسع. وقد بدأت هذه الجهود بالاعتراف التركي ـ الخليجي، ثم لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس الشرع في الرياض بترتيب وضمانة سعودية ـ تركية، أعقبه ترحيب أوروبي رسمي بمسار التغيير السياسي في سوريا، ثم كلمة الشرع على منصة الأمم المتحدة، فالزيارة الرسمية إلى موسكو، مع إعلان وزير الخارجية أسعد الشيباني عن زيارة مرتقبة إلى الصين لإكمال دائرة الاعتراف الدولي
هذا التسلسل المدروس يؤشر إلى استراتيجية تقوم على تحقيق توازن دولي في الشرعية، بحيث لا تُبنى على محور واحد، بل على شبكة متعددة الأقطاب، تعزز قدرة السلطة على المناورة وتمنحها مظلة حماية دولية واسعة.
الرؤية الأميركية والمنطق التفاوضي:
تأتي الزيارة في إطار السياسة التي يتبعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، القائم على “منطق الصفقة” في إدارة الملفات الدولية. وبناء على هذا المنطق، فإن العلاقة مع دمشق لا تنحصر في الاعتراف الدبلوماسي، بل تتجاوز ذلك إلى تفاهمات استراتيجية أعمق تتعلق بإعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي في سوريا، ضمن تصور أميركي جديد لموازين القوى في الشرق الأوسط
فالولايات المتحدة تنظر إلى سوريا بوصفها عقدة جيوسياسية تتقاطع فيها مصالح قوى إقليمية ودولية؛ وبالتالي فإن إعادة دمجها في منظومة العلاقات الدولية ليس مجرد خطوة سياسية، بل جزء من إعادة هندسة ميزان القوى في الإقليم، وخصوصًا في ظل التنافس التركي ـ الإسرائيلي، والحضور الروسي، وتزايد النفوذ الصيني الاقتصادي.
ملفات الزيارة الرئيسة:
أولا -الانضمام إلى “التحالف الدولي” ضد داعش:
تمثل هذه الخطوة أحد أعمدة الشرعية الأميركية للسلطة الجديدة. فهي تُعد إعلانًا نهائيًا عن تحوّل جذري في هوية السلطة من فصائل ذات خلفيات جهادية إلى شريك دولي في مكافحة الإرهاب. ويمنح هذا التحول شرعية سياسية وأمنية في الغرب، ويتيح تجاوز الإرث الجهادي الذي كان عقبة أمام الاعتراف الدولي.
لكن هذا التحول ليس بلا كلفة؛ إذ يتطلب غطاءً دينيًا يمنح السلطة مشروعية داخلية للانتقال من مربع “الجهاد ضد الغرب” إلى مربع “التحالف معه”. هذا ما قد يفجر انقسامات داخل التيارات المكوّنة للسلطة، وربما ينذر بصدامات داخلية، خاصة في ظل الاختراقات التي قامت بها عناصر داعش لعدد من التشكيلات العسكرية فضلا عن ضرورة توفير الغطاء النابع من الفتوى بالوقوف مع جبهة الكفار ضد المسلمين لاسيما أن مكونات عديدة من فصائل السلطة تنظر إلى الغرب من موضوعة التكفير
إضافة إلى ذلك، فإن التعاون المتوقع بين السلطة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية يشكل خطًا تصادميًا مع أنقرة، التي ترى في توسع دور قسد تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
ثانيا -الاتفاق الأمني السوري ـ الإسرائيلي:
شهدت الفترة الماضية عدة جولات تفاوض مباشرة بين دمشق و”تل أبيب”، ما يشير إلى تحول غير مسبوق في السياسة السورية. وكان متوقعًا توقيع اتفاق أمني خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن الحرب في غزة أجّلت الخطوة.
ووفقا لتصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم براك في منتدى المنامة فيمكن تصور أن الاتفاق لا يقتصر على ترتيبات أمنية، بل يتجه نحو اتفاق للسلام و تطبيع كامل يضع سوريا ضمن منظومة “الاتفاقات الإبراهيمية”. وهو مسار يحمل تداعيات اجتماعية وسياسية كبيرة داخل سوريا، خصوصًا في الجنوب ودرعا، فضلًا عن انعكاساته على السويداء التي تحاول “إسرائيل” تقديم نفسها كحامٍ لها فضلا عن رفض قطاعات واسعة للسلام من منطق الهيمنة الإسرائيلية واشرافها على الجنوب السوري كاملا مع ضياع الجولان إلى الابد .
كما أن هذا المسار يضع تركيا أمام تحدٍ استراتيجي جديد، إذ تجد نفسها أمام معادلة تتمثل في توسيع النفوذ الإسرائيلي على حدودها الجنوبية في لحظة حساسة من التوترات الإقليمية.
ثالثا – رفع العقوبات والاندماج الاقتصادي الدولي:
يمثل رفع العقوبات الأميركية ـ وعلى رأسها قانون قيصر ـ شريان حياة للسلطة الجديدة، وشرطًا حاسمًا للدخول في مرحلة إعادة الإعمار واستقطاب الاستثمارات. وتقدَّر احتياجات إعادة الإعمار بما يتراوح بين 300 و600 مليار دولار، ما يجعل السوق السورية مستقبلًا اقتصاديًا جذابًا لشركات عالمية ترغب الشركات الامريكية أن تكون في طليعتها بعد عدة جولات استكشافية إلى سوريا.
كما يشكل ملف الغاز في شرق المتوسط وخطوط الطاقة بين الخليج وأوروبا أحد دوافع الانفتاح الأميركي، في إطار إعادة صياغة خريطة الطاقة العالمية. إلا أن هذا المسار مشروط بتنفيذ السلطة الجديدة أجندة أميركية تشمل مكافحة الإرهاب، وإقامة حكم تمثيلي، وحماية الأقليات، والاهم الانضمام إلى الاتفاقيات الابراهيمية مع مراجعة دورية لضمان الالتزام.
الزيارة تسحب البساط من تحت أقدام تركيا وتعيد تعريف سوريا:
يبدو أن السلطة السورية الجديدة تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ شرعية خارجية واسعة، مع إهمال شبه كامل لبناء شرعية داخلية قائمة على المصالحة الوطنية أو التمثيل الشعبي. وفي حين كانت تركيا اللاعب الأكثر تأثيرًا في دمشق، تعمل واشنطن بهدوء على استعادة زمام المبادرة وإعادة تعريف الأدوار الإقليمية عبر إدارتها المباشرة مع رسم خارطة النفوذ وحدود التأثير وهذا يضمن التوازن بين التركي والإسرائيلي في سوريا مرحليا ويمنع التصادم بينهما ويحتوي أي مسارات غير مرغوبة في العلاقة التنافسية بينهما في سوريا، لاسيما أنهما وجدا نفسهما وجها لوجه بعد سقوط النظام السوري السابق وأصبح التماس بينهما مباشرا بعد أن اقتصر في السابق على التماس غير مباشر لاسيما مع دخول سوريا مرحلة جديدة من تعريف دورها الإقليمي والذي يبدو أنه بالتحالف الأمريكي والسلام مع “إسرائيل” قد يمتد تأثيره إقليميا إلى لبنان والعراق ضمن الرؤية الامريكية
إقرأ أيضاً: واشنطن تسعى لشطب اسم أحمد الشرع من قائمة العقوبات قبل زيارته للبيت الأبيض
إقرأ أيضاً: ترامب: الشرع يعمل جيداً وقد يزور البيت الأبيض