داما بوست – كلير عكاوي
يبدو أن جملة “ياللي مكتبلو عمر بيقتل الشّدة” ليست مقتبسة من أغنية الفنان معين شريف، بل عبّرت عن المعنى الحقيقي لحكايات الناجين من الزلزال الذي ضرب عدد من المحافظات السورية في 6 شباط العام الماضي، ليتأوّه أحد سكان اللاذقية، قائلاً: “كأن الظلم خلقان لي وحدي”.
وروى هذا الرجل الذي يدعى فايز ديكو (35 عاماً) لـ “داما بوست” عن “حمله الثقيل منذ اللحظات الأولى لوقوع الزلزال، ومسؤوليّته تجاه أبناء أخيه الذي توفّي هو وزوجته وابنهما الأوسط، ليتركا له ولدين بعمر “الوردة”، وهم “عادل وأمير”.
وبالرغم من معاناته منذ 12 عاماً بعد أن تسبّبت له الحرب بإصابة عصبية بالعمود الفقري التي منعته عن العمل بمجالات مختلفة، إلا أن “ديكو” تكفّل برعاية الولدين بكل محبة، وحاول ضمن إمكانيّاته أن يؤمّن لعائلته المكوّنة من 12 فرداً خبزهم كفافا يومهم.
وقال العم “فايز”: “نحن مرهقون ومحرومون من مد السُفر، نكفي أنفسنا بساندويشات خلال اليوم، ومازلت أبحث عن مصدر دخل لتأمين حاجات منزلي، حيث قدّمت الكثير من الطلبات لمحافظة اللاذقية لكي أحظى بكشك صغير أو عمل ما، ولكن دون أي استجابة حتى الآن”.
ووسط الاستجابة بإنقاذ الشاب عادل ابن الـ (17 عاماً) من رحم الزلزال العام الماضي، إلا أنه فقد عائلته القاطنة في الرمل الجنوبي باللاذقية، حيث استيقظ تحت الركام بعد ساعات، ليلتقي بأخيه أمير صاحب الـ (7 سنوات)، الناجي بفضل أحضان والدته وحمايتها له قبل وفاتها صحبة والده ابراهيم وأخيه الأوسط محمد (14 عاماً).
الهم مارضي فينا!
تحدّث عم الناجين عن حاله السيء هو وعائلته التي تهجّرت في الحرب إلى اللاذقية، والمؤلّفة منه وزوجته وابنتيه، وأخته التي فقدت زوجها منذ سنوات ولديها ولدين، إضافة إلى والده مريض السرطان ووالدته، وصولاً إلى عادل وأمير.
وقال “ديكو”: “رضينا بالهم والهم مارضي فينا.. منذ حدوث الكارثة حصلنا على مساعدات من الناس المقرّبة والأصدقاء، ولكنّها قليلة مهما بلغت قيمتها، ولم أحظى بإعانة منذ 3 أشهر على دفتر العيلة”.
وأكمل “ديكو”: “انعدمت اتصالات المساعدة في الشهر الخامس من العام الماضي، علماً أنها كانت تأتينا بفترات متباعدة جداً”.
“ولا يستطيع العم المربّي العمل بسبب صحته “اللي على قدا”، ويسعى جاهداً للتقديم إلى وظيفة حكومية، معتمداً على الإيمان بالله، ومحاولاً تأمين لقمة عيشه بعرق جبينه”، بحسب وصفه.
رأي حكومي
أكدت مديرة الشؤون الفنية في محافظة اللاذقية د. داليا محرز لـ “داما بوست” أن “الدعم الحكومي النقدي المقدم لمتضرري الزلزال، تمثّل بالدعم المقدّم من الصندوق الوطني لدعم المتضرّرين المحدث بموجب المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2023، والذي حدّد في معاييره بأولوية تأمين المأوى وفق درجات الضرر، وخاصة المتضررين من الأبنية المنهارة لحظة وقوع الزلزال وفق شريحتي (أ) و(ب).
وفي التفاصيل، أفادت “محرز” بأن “الشريحة (أ) شملت المتضرّرين من الأبنية المنهارة بلحظة وقوع الزلزال والمرخّصة في المناطق المنظّمة من خلال تقديم دعم مادي بمقدار 160 مليون ل.س، يسمح لهم بالترخيص لإعادة بناء العقار”.
“أما الشريحة (ب)، فشملت المتضرّرين من الأبنية المنهارة بلحظة وقوع الزلزال المخالفة في المناطق المنظّمة وغير المنظّمة، بدعم قدره 40 مليون ل.س، يسمح للمتضرر بالاكتتاب على مسكن من مساكن المؤسسة العامة للإسكان مع السماح بسحب قرض بمبلغ 160 مليون ل.س وفق تعليمات المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2023”.
وأكملت “محرز”: “إضافة إلى منح المتضررين الكثير من الإعفاءات من الرسوم والضرائب والغرامات، مع إمكانية سحب قرض سقفه 200 مليون ل.س، معفى من الفوائد، حيث تسترد الدفعة الأولى منه بعد 3 سنوات، وفق التعليمات التي تحدّدها تلك المصارف.
تعويضات الـ 40/ثا
رغم أزمات السوريين المتتالية، إلا أن الـ 40 ثانية للزلزال كانت كفيلة بتغيير حياتهم، معلنة عن كارثة مدمّرة ومناطق سوريّة منكوبة، لتزيد الهم هماً وتحوّل آلاف المباني إلى ركام، في حين أصابت البعض وقتلت آخرين.
وتكفّلت مؤسسة العرين بعلاج الشاب “عادل” بمشفى العثمان بشكل كامل بعد إصابته في قدمه جرّاء الزلزال، إضافة إلى تأمينها الدواء اللازم لمدة 6 أشهر لوالد العم “فايز” المصاب بالسرطان، بحسب قوله.
وأضاف “ديكو”: “حصلنا على تعويض سكني من الهلال الأحمر وقدره 3 مليون ل.س لدفع آجار منزلي، لأن منزل أخي المتوفّى كان بعقد إيجار، وتعويضات إعادة بناء المنازل المهدّمة كانت فقط للملاّكيين”.
“وتكفّل المعهد الذي يتلقّى فيه “عادل” تعليمه لصف الحادي عشر بكامل تكاليفه، أما “أمير” فهو يتلقّى تعليمه لصف الأول في مدرسة قريبة من السكن الشبابي، وتحاول عائلة العم “فايز” مساعدته ومراعاة ظرفه، رغم تحسّن حالته النفسية عمّا كانت عليه”.
إعادة البناء ونسب الإنجاز
أشارت “محرز” إلى أن “إعادة البناء تخص الشريحة (أ) للأبنية المنهارة بلحظة وقوع الزلزال والمرخّصة في المناطق المنظّمة، حيث تم تقديم الطلب على إعادة ترخيص 57 عقار منهار بلحظة وقوع الزلزال من أصل 103 عقارات، علماً أن هناك جزءاً منها حصل على الموافقة مع مبلغ الدعم، وهي حالياً قيد الإنشاء”.
أما فيما يتعلّق ببناء الوحدات السكنية البديلة التي أشادتها المؤسسة العامة للإسكان، بيّنت “محرز” أن “المؤسسة أقامت 320 وحدة سكنية موزّعة على 8 برجيّات، 4 منها موزّعة على اوتوستراد الثورة، و2 في حي الغراف، و2 في جبلة – اللاذقية”.
وأوضحت “محرز” أن “نسب الإنجاز تقدّمت، حيث وصلت في أوتوستراد الثورة إلى نسبة تجاوزت 96% على الهيكل، وحوالي 28 % من الاكساء، أما في حي الغراف تجاوزت الـ 26%، وفي جبلة تجاوزت 70 % على الهيكل، ويستمر العمل حالياً لاستكمال الوحدات وتوزيعها على المكتتبين من الشريحة (ب)”.
“كاسة ما بتعرف تجلي”
“كاسة ما بتعرف تجلي” هي جملة ردّدها مهندس الكهرباء علي ديّوب (26 عاماً)، ليصف معاناة أخته الوحيدة “آية” التي تحمّلت مسؤولية المنزل منذ وقوع الزلزال بعد فقدان ذويهم، محاولة إكفاء حاجات أخويها “علي وعروة” بإرادة وصلابة.
ونجى ديّوب من رحم الكارثة، هو وأخوه المهندس الزراعي “عروة” (25 عاماً) مع أختهم آية (21 عاماً)، والتي مازالت تدرس في مقاعد كلية هندسة المعلوماتية بالسنة الرابعة.
وروى الناجي “ديّوب” لـ “داما بوست” عن “فقدانه لوالده ووالدته وإخوته (الأول في الصف السادس والثاني في السابع الابتدائي) بعد سقوط البناء الذي يقطن فيه مع عائلته في جبلة – اللاذقية جراء الزلزال المدمر”.
وقال الناجي: “لم يعد شيئاً كما كان، مرّت علينا أيام صعبة جداً منذ حدوث الكارثة، وبقينا لوحدنا في الشهور الأربعة الأولى، الأمر الذي انعكس سلباً على حالتنا النفسية أكثر فأكثر”.
ومكث الباقون من العائلة تحت الأنقاض لساعات إلى حين إنقاذهم، لتتبيّن إصابة “علي” بالرأس والظهر والقدم، وإصابة “عروة وآية” في الرأس، وصولاً لتغيير جذري في حياتهم جميعاً.
تعويضات غير حكومية للمتضررين من الزلزال وفق شرائح
أوضحت “محرز” أن “التعويضات النقدية غير الحكومية، كانت منوّعة بحسب آليات الدعم المقدمة من المنظمات الدولية أو المجتمع المحلي، حيث تمثّل الدعم الخارجي من خلال المواد الإغاثية والإعانات، وتم تقديمها للمتضررين من الزلزال وفق شرائح مختلفة، لاسيّما المتضررين الذين تواجدوا في مراكز الإيواء”.
“وكان ذلك إضافة إلى الدعم المالي المقدّم من المنظمات الحكومية، ويعادل بدل آجار من خلال برنامج يسمى “كاش”، بمبلغ قدره 3 مليون و150 ألف ل.س، حيث شملت هذه الشريحة دعم 21 ألف وسبعمئة متضرر، بمبلغ يعادل 68 مليار ل.س”.
وأضافت: “هناك دعم مقدّم من بعض الجهات المانحة والمجتمع المحلي في دفع بدلات آجار بحوالي 800 مسكن، للأشخاص الذين لم يرغبوا في الذهاب إلى مراكز الإيواء، إضافة إلى توزيع المعونات الإغاثية ومستلزمات الإقامة، مع تقديم الخدمات الطبية”.
إعانات رمزية!
وصف “ديوب” التعويضات التي حصلوا عليها من الجمعيات بالإعانات الرمزية، حيث كانت مبالغ قليلة لا تغطّي إلا مصاريف بسيطة جداً، قائلاً لـ “داما بوست”: إنّها “لا تعتبر تعويضاً”.
وقدّمت عائلة “ديوب” جميع الأوراق المطلوبة إلى الجهات المعنيّة لترميم منزلهم، آملين إعادة بناءه أو الحصول على منزل بديل ولو كان على “العظم”، علماً أنهم مستأجرون إحدى منازل جبلة على نفقتهم الخاصة.
وأضاف الناجي: “تعلّمنا كثيراً من هذه المحنة، وعرفنا رسالة الله لنا وفهمنا، وبعد مرور أيام على وقوعها عملنا أنا وأخي على مدار الساعة، لنعيش من تعبنا وعرق جبيننا، والحمدلله.. تمكّنا من إدارة حياتنا.. وكانت أختي الغالية هي مهجة قلبنا نحن الاثنين”.
السكن المؤقت لمتضرري الزلزال
أفادت مديرة الشؤون الفنية في محافظة اللاذقية بأن السكن المؤقت كان في خطة تأمين المأوى على المستوى المتوسط، حيث بادر الجانب الإماراتي بإنشاء ألف وحدة سكنية مسبقة الصنع توزعت في 7 مواقع، (1 منها في إسطامو، 2 في الغراف، 1 في دمسرخو، 3 في جبلة).
وأضافت: “تم توزيع 47 وحدة سكنية مسبقة الصنع في جبلة على المستحقين وفق معايير الاستحقاق، إضافة إلى إنجاز 78 وحدة سكنية إضافية فيها، و132 وحدة سكنية في حي الغراف، ويتم العمل حالياً على تحديد المستحقين”.
وبما يخص أعمال الترميم، قالت “محرز”: “بمجرد الكشف من قبل اللجان العامة على العقارات المتضرّرة، وتحديد حجم ونسبة الضرر وآلية المعالجة، يمكن لأصحاب تلك العقارات المباشرة بأعمال التدعيم والترميم وفق القوانين والأنظمة النافذة”.
وبادرت بعض المنظمات بترميم مجموعة من المنازل، وهي حالياً قيد العمل لتحديد ما هي مناطق الاستهداف بالتعاون مع اللجنة الفرعية للإغاثة لتقوم بالأعمال المطلوبة، بحسب “محرز”.
تكاليف ما دمره الزلزال تفوق الإمكانات
بيّنت “محرز” جملة من “الصعوبات والتحدّيات التي واجهت الجهات المعنية بهذه الكارثة بحجمها الكبير في ظل ظروف الحرب الجائرة على سوريا والعقوبات الاقتصادية التي تعاني منها منذ 12 عاماً.
وأضافت: “ضعف الإمكانات وقلّة الاعتمادات هي الصعوبة الأكبر التي تواجهنا، الأمر الذي حدّ كثيراً من إمكانية الدعم التي ترغب به الجهات الدوليّة، حيث كان للجانب الإماراتي رغبة بإشادة أبنية في المناطق المتضررة، إلا أن العقوبات الاقتصادية حالت دون ذلك واضطر إلى تقديم وحدات مسبقة الصنع”.
وأردفت: “نواجه صعوبات أخرى عديدة منها التكاليف العالية لإعادة البناء والترميم وتعويض المتضررين الذي يفوق الإمكانات المتاحة، لذلك لم تتم العمليات بالسرعة التي كانت منشودة”.
وتبقى أيام المواطن السوري تعدو ببطء شديد، لكي تذكّره في كل ساعة بحجم معاناته وعدد الصدمات التي تأتيه من حيث لا يدري منذ 12 عاماً، منها كانت بقضاء الله وقدره وأخرى كانت بفعل الإنسان لأخيه دون رحمة، ولكنه سيبقى كشجرة الصفصاف يموت وهو واقف على قدميه.