دبابات في الفراغ: هل يستمر التمدد “الإسرائيلي” بعد سقوط بشار الأسد؟

مع سقوط نظام بشار الأسد، بدأت إسرائيل بتوسيع نطاق تدخلها داخل الأراضي السورية، سياسيًا وعسكريًا. ومع هشاشة المرحلة الانتقالية في البلاد، يبرز سؤال محوري: هل شكّل سقوط الأسد فرصة استراتيجية لـ “إسرائيل لترسيخ حضورها الأمني والاستخباراتي في سوريا، وفرض واقع جديد على حدودها الشمالية؟

يقول موقع سوريا الغد في لحظة انهيار غير معلنة، وفي ظل غياب شبه كامل لمؤسسات الدولة السورية، برزت الجغرافيا لا كخريطة، بل كفراغ يملؤوه الأقوى، فاجتياح “إسرائيل” لمناطق جنوب سوريا لم يكن فعلا معزولا، بل تعبيرا عن ديناميكية جديدة تحكم الشرق الأوسط، فلم تعد السيادة ثابتة، ولا الحدود مصونة، ومع كل تقدم عسكري، يتمدد الواقع “الإسرائيلي” على الأرض، في مقابل انكماش الردع الدولي، وارتباك الحسابات الإقليمية.

إقرأ أيضاً: هل إسرائيل تستخدم حجة الأقليات كحصان طروادة ضد الحكومة السورية

انهيار وقف الاشتباك وتحوّلات الجنوب السوري

في 8 كانون الأول 2024، ومع تراجع السيطرة المركزية للنظام السوري في الجنوب، اجتازت دبابات “إسرائيلية الخط البنفسجي”؛ ذاك الخط الوهمي الذي رسخته اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، ولم يكن ذلك مجرد خرق تقني لاتفاقية أممية، بل إعلانا صارخا عن مرحلة جيوسياسية جديدة في المشرق العربي، تعيد رسم الخرائط بأدوات القوة والفراغ معا.

تحولت مناطق الجنوب السوري إلى مسرح لعملية عسكرية “إسرائيلية” متدرجة؛ تتراوح بين الضربات الجوية الكثيفة وبناء التحصينات على الأرض، وشهدت سوريا أكثر من 1300 غارة جوية، ومئات الضحايا، وآلاف من النازحين، وسلسلة طويلة من الانتهاكات الحقوقية كما وثقتها تقارير أممية ومنظمات مستقلة، وهذا السلوك التصعيدي لا يمكن قراءته بوصفه ردا أمنيا، بل هو ارتداد لتوازنات إقليمية تتآكل، وانكشاف جغرافي ناتج عن انهيار مركز الدولة السورية.

الردع بديلاً عن التسوية: قراءة إسرائيلية لغياب المركز السوري

الجغرافيا لا تملي المصير، لكنها تشكل المحدد الأساسي لأنماط الفعل السياسي؛ لا سيما حين يغيب الكيان المركزي الذي يضبط الحدود والتفاعلات، فحين تنكمش الدولة، تصبح التضاريس مفتوحة أمام من يملك القدرة على فرض الأمر الواقع، وتتحول المناطق الحدودية إلى فضاءات نفوذ محتملة، يتجاوز فيها الأمن الجغرافي المفهوم التقليدي للسيادة.

وفي هذا السياق، لم تُقدِم “إسرائيل” على التوغل من موقع المغامرة، بل من قناعة بوجود “فرصة استراتيجية” تتيح إعادة رسم “حزام أمني مرن” يمتد على خاصرتها الشمالية، فالخط البنفسجي، بوصفه أثرا لحرب تشرين، يمثل أكثر من حد عسكري؛ وكان رمزا لميزان رعب إقليمي، تهاوى حين فرغت دمشق من قرارها.

حماية الأقليات أم تفكيك الداخل؟ السويداء في عين العاصفة

السؤال الأكثر إلحاحا اليوم لا يتعلق بمشروعية التحرك الإسرائيلي، بل بتداعياته البعيدة المدى، إذ إن الخروقات المستمرة لهذا الخط تهدد بإعادة فتح جبهة الجنوب، ليس فقط مع سوريا، بل مع نسيجها الاجتماعي، واشتباكات السويداء الأخيرة التي خلّفت أكثر من 300 قتيل و80 ألف نازح، لم تكن سوى الشرارة الأولى لانفجار داخلي مرشح للتوسع، تغذيه التوترات الطائفية والفراغ الأمني، وتؤججه الغارات الإسرائيلية تحت شعار حماية الأقليات.

إن التذرع بحماية المجتمعات المحلية في جبل العرب لا يخفي الطبيعة الانتقائية للسياسة “الإسرائيلية” التي اختارت الجنوب السوري ساحة للضغط الاستراتيجي، متجاوزة الخطوط الحمراء الدولية، فحين تُقصف وزارة الدفاع السورية في دمشق في وضح النهار، وتُضرب ساحات القصر الجمهوري، فإننا لا نكون أمام عملية أمنية بل أمام رسالة سياسية مفادها لا خطوط فاصلة بعد اليوم بين المركز والهامش.

من ردود فعل دولية خجولة إلى احتمالات انهيار التوازن الإقليمي

المفارقة أن هذا التصعيد يجري في ظل صمتٍ دولي نسبي، يُقابله قلق لفظي من الأمم المتحدة، دون أدوات ردع فعالة. بينما تُعلن واشنطن أنها لا تؤيد الضربات، فإنها في الوقت ذاته، تغض الطرف عن التمدد الإسرائيلي في الجولان وما بعده، أما العرب، فبين إدانات شكلية وصمت استراتيجي، تبدو قدرتهم على التأثير محدودة في ظل شروخ داخلية وانقسامات في المقاربة.

لكن الخطر الأهم لا يكمن في التصعيد العسكري وحده، بل في انزلاق الوضع السوري إلى حرب أهلية بوجه “إسرائيلي” هذه المرة، ففي الجنوب، تتداخل الجغرافيا مع الهويات المحلية، ويكفي أن تشتعل شرارة جديدة بين أهالي جبل العرب والبدو كي تُفتح أبواب جحيم يصعب إغلاقه، حينها، لن تكون إسرائيل ضامنة لأمنها، بل طرفا في صراع أهلي مفتوح.

الجنوب كمرآة للمشرق: هل تُولد خرائط جديدة من رماد السويداء ودرعا؟

ثمّة سؤال مقلق يلوح في أفق هذا المشهد: إلى أين تمضي “إسرائيل” بهذه السياسة؟ هل تسعى إلى ضم فعلي لمساحات من جنوب سوريا ضمن معادلة أمنية طويلة الأمد؟ أم أن ما يجري هو مجرد فصل من فصول “الردع الديناميكي” لكل من يفكر بمقاومتها ؟ في الحالتين، فإن استمرار التصعيد دون تسوية واضحة سيقود إلى انزلاق إقليمي أوسع، ربما على شاكلة مواجهة تتخطى حدود الجولان.

المراقب لمجريات الجنوب يلاحظ انكماش قوات السلطة الجديدة في سوريا، وانكفاؤها خلف خطوط داخلية، ما يعيد تشكيل الخريطة الأمنية بطريقة خطيرة، أما القوات الروسية التي كانت تمثل عامل توازن في مرحلة ما بعد 2015، تراجعت بفعل انشغالاتها في أوكرانيا، فيما تغيب إيران عن المشهد الميداني بشكل ملحوظ، ربما تكتيكا أو نتيجة تفاهمات ضمنية، هذا الفراغ الثلاثي (السوري-الروسي-الإيراني) هو ما أتاح لـ”إسرائيل” أن تتحرك بثقة، دون خوف من رد حاسم.

بين المقاومة والانتقام: من يملأ فراغ الغياب العربي والدولي؟

ومع ذلك، لا يمكن لإسرائيل أن تعيش في فراغ سياسي دائم، إذ أن احتلال مناطق في القنيطرة ودرعا وريف دمشق، وإن جاء مؤقتا، سيعيد إلى الذاكرة صور الاحتلالات السابقة، ويغذي أدبيات المقاومة التي لا تنضب في هذا الإقليم، فالجغرافيا ربما يتم احتلالها لكن الذاكرة لا تُقهر.

في النهاية، لا يتعلق الأمر بسوريا وحدها، بل بمبدأ الشرعية الدولية، وحدود الردع، وتوازنات القوة في شرق المتوسط، وإذا استمر العجز الأممي، والصمت الإقليمي، فإن الخط البنفسجي لن يكون آخر الخطوط التي تُمحى، والمشرق، الذي أنهكته الحروب، يجد نفسه من جديد على حافة بركان، تحرّكه دبابات تتجاوز الخطوط أكثر مما تحفظ الأمن.

عمليا المسألة لا ترتبط فقط بوقف للغارات، بل رؤية شاملة تعيد ضبط الإطار القانوني والسياسي للعلاقات بين سوريا و”إسرائيل”، تحت سقف الأمم المتحدة، وبضمانات إقليمية صلبة، أما الاستمرار في سياسة الأمر الواقع، فلن يفضي سوى إلى مزيد من الفوضى، وربما إلى ولادة كيانات جنوبية مسلحة، تتكئ على ثارات محلية، وتحمل رايات لا تؤمن سوى بالانتقام.

إن الجنوب السوري، بكل تعقيداته، لا يحتمل مغامرة جديدة، وإذا كان الجولان قد تحول إلى ملف منسي، فإن امتداد النار إلى السويداء ودرعا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وليس بعيدا اليوم الذي نجد فيه أنفسنا أمام حدودٍ جديدة، ترسمها الدبابات لا الخرائط.

 

إقرأ أيضاً: هل تعيد إسرائيل رسم خريطة النفوذ الأمني جنوب سوريا؟

إقرأ أيضاً: أولي البأس يخرج من الظل: هل يبدأ عملياته ضد إسرائيل في سوريا؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.