سوريا بعد الأسد.. بلدٌ مُستباح وسط فراغ السلطة وتفكك الهوية

منذ سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، دخلت سوريا في مرحلة جديدة من الفوضى، لا تشبه ما سبقها حتى في أكثر سنوات الحرب دموية. فبينما ظن البعض أن غياب رأس النظام سيفتح الطريق نحو بناء الدولة، أفرز الواقع حالة استباحة شاملة تطال الإنسان والجغرافيا والهوية، على نحو يعكس فشلًا في الانتقال، لا أقلّ من كونه استمرارًا لسياسات العنف السابقة، لكن بوجوه مختلفة.

الاستباحة كأداة سلطة

ليست الاستباحة مجرّد انفلات أمني أو غياب للمؤسسات، بل أسلوب متعمّد في إدارة مرحلة ما بعد الانهيار. تشبه إلى حد كبير ما فعله “الفاندالز” عند اجتياح روما في القرن الخامس: ضرب الرموز وتدمير الذاكرة وتفكيك الهوية لفرض سلطة جديدة. اليوم، تتكرر هذه الممارسات في مدن الساحل والسويداء وحلب ودرعا، حيث تُمزّق الرموز القديمة، وتُكتب الشعارات الجديدة بقوة السلاح لا القانون.

الساحة العامة: من الوطن إلى الحيّز الطائفي

في عهد الأسد، لم تكن الساحة العامة ملكًا للمواطنين، بل ساحة سيطرة رمزية. المدارس والساحات والمستشفيات كانت تُدار وفق هندسة طائفية، تُمنح فيها الامتيازات وفق الولاء، وتُمارس فيها الهيمنة من خلال الأمن والتمييز. اليوم، تغيّر اللاعبون لكن لم تتغير القواعد: الميلشيات المحلية، سواء ذات هوية دينية أو عائلية أو جهوية، تحوّلت إلى سلطة الأمر الواقع، تقطع الطرق وتوزّع الولاءات وتُخضع السكان باسم الثورة أو الثأر أو الهوية.

من الدولة إلى الغنيمة

في ظل غياب العدالة الانتقالية، تحوّل كثيرون من ضحايا إلى جلّادين. الاستباحة لم تعد فعلًا تمارسه سلطة فوقية فقط، بل تحوّل إلى نمط حياة في مناطق لا تخضع لأي مرجعية قانونية. التهجير، النهب، السطو على الممتلكات، وتصفية الحسابات الفردية باتت جزءًا من مشهد يومي، يتكرّر من الساحل إلى دير الزور، ومن السويداء إلى حلب.

الهوية في مهبّ التفكيك

واحدة من أخطر نتائج هذه المرحلة، هي التفكك السريع للهوية السورية الجامعة. فعوضًا عن بناء مفهوم جديد للمواطنة، يجري اليوم إنتاج هويات فرعية وقاصرة، قائمة على الطائفة أو العشيرة أو حتى الفصيل المسلح. وبدل أن تكون الهوية أداة للانتماء، أصبحت تهمة تُعرض صاحبها للقتل أو التهجير أو الابتزاز.

العدالة الغائبة

غياب العدالة، سواء عبر المحاكم المحلية أو الدولية، فتح الباب أمام منطق “كلٌّ يقتص بيده”. فلا مراكز شرطة، ولا محاكم مستقلة، ولا مؤسسات موثوقة للفصل بين الناس. كلّ منطقة تُدار بمنطق الغنيمة، وكل ميلشيا ترى نفسها وصية على التاريخ والجغرافيا.

خاتمة: دولة بلا سردية وطنية؟

في بلد مُستباح، بلا مؤسسات ولا سردية وطنية جامعة، تظلّ الأسئلة الكبرى معلّقة: من يحمي الإنسان السوري؟ من يُعيد له كرامته وذاكرته؟ وكيف يمكن الانتقال من منطق السيطرة إلى منطق المواطنة؟ لعلّ الإجابة تبدأ من الإقرار بأن ما يجري ليس “ما بعد حرب”، بل استمرار لحرب بأدوات جديدة.

اقرأ أيضاً:هل تنجح دمشق في احتواء قسد؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.