يشهد الملف السوري تحولات متسارعة تفتح الباب أمام سيناريوهات غير مألوفة لدى الشارع السوري خاصة ما يتم الحديث عنه حول التطبيع بين سوريا و”إسرائيل”.
في الأيام التي تلت سقوط نظام بشار الأسد، تحولت الجبهة الجنوبية في سوريا إلى ساحة مفتوحة أمام أطماع الاحتلال الإسرائيلي، إذ لم تكتف “تل أبيب” بإلغاء العمل باتفاقية فصل القوات لعام 1974، بل توسعت ميدانيًا لتسيطر على ما يُقدّر بـ600 كيلومتر مربع داخل الأراضي السورية، تشمل جبل الشيخ وأجزاء ومرتفعات في القنيطرة وريف دمشق.
إقرأ أيضاً: إنزال إسرائيلي على بعد كيلومترات من دمشق وتوغلات جنوبية متزامنة
الاحتلال لتعديل شروط التفاوض
هذه الخطوة الميدانية لا يمكن فصلها عن العقلية التفاوضية التي لطالما ميّزت “إسرائيل” في تعاملها مع ملفات الصراع: رفع سقف السيطرة لتعديل شروط التفاوض، وكما انتقل الخطاب الإسرائيلي سابقًا على مر عقود من الزمن عبر التفاوض على حدود 1948 إلى حدود 1967، ثم إلى صفقات جزئية لا تتناول الأرض الفلسطينية المحتلة أصلًا، بل أبعد من ذلك، حيث أن “تل أبيب” اليوم تسعى لتكريس معادلة جديدة: التفاوض خارج الأراضي التي احتلتها سابقاً أي على ما بعد الجولان، لا الجولان نفسه.
إقرأ أيضاً: صورة الشرع في تل أبيب: مؤشر على تحولات جيوسياسية محتم
تفاهمات أمنية لا سلام شامل: تسريبات متضاربة ومصالح متشابكة
شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة التسريبات الإعلامية الإسرائيلية بشأن مستقبل العلاقة مع سوريا. فقد أوردت بعض المصادر أن اتفاق سلام بين الطرفين قد يُوقَّع مع نهاية عام 2025، ويتضمن – بحسب تلك التسريبات – اعترافًا سوريًا بسيادة “إسرائيل” على الجولان كشرط أساسي. غير أن وسائل إعلام إسرائيلية أخرى نقلت نفيًا قاطعًا بقبول الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع لأي إمكانية للتنازل عن الجولان، ما يوضح حجم التناقضات التي تكتنف الرواية الإسرائيلية.
وفي تطور لافت، ذكرت “هيئة البث الإسرائيلية” أن الإدارة الأميركية تبذل جهودًا لتوسيع دائرة اتفاقيات “أبراهام”، سعيًا إلى ضمّ ثلاث دول جديدة: سوريا، السعودية، ولبنان. وأكد المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، في مقابلة مع قناة “الجزيرة”، أن الإدارة السورية الحالية تُجري محادثات “هادئة” مع “إسرائيل” تتناول ملفات عدة، مشيرًا إلى أن حكومة الرئيس أحمد الشرع تسعى إلى “الاستقرار وليس المواجهة”.
إقرأ أيضاً: إعلام إسرائيلي: سوريا تطلب ثلث الجولان وأراضي لبنانية للتطبيع مع إسرائيل
قناة حوار أمني لا تشمل الجولان
وسط هذا المناخ، تداولت بعض الأوساط الإعلامية والسياسية معلومات عن لقاء محتمل بين الشرع ورئيس الوزراء “الإسرائيلي”، “بنيامين نتنياهو” على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة، وفي سياق موازٍ، أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية بأن “إسرائيل” قد فتحت بالفعل قناة حوار أمني مع السلطة السورية الانتقالية. إلا أن الهدف من هذا المسار – كما تشير الصحيفة – لا يرتبط باتفاق سلام شامل، بل يركّز على تفاهمات أمنية محدودة تتعلق بالمناطق التي سيطرت عليها “إسرائيل” بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، دون التطرّق إلى ملف الجولان المحتل.
ويبدو أن هذا الطرح ينسجم مع نمط العقلية الأمنية الإسرائيلية، التي تسعى إلى تثبيت أمر واقع جديد على الأرض، وتكريس خطوط تماس جديدة تخدم مصالحها الاستراتيجية جنوب سوريا، وقد أكّد وزير الخارجية “الإسرائيلي”، جدعون ساعر، هذا التوجه، حين صرّح بأن “الجولان سيبقى جزءًا من السيادة الإسرائيلية، حتى في حال التوصل إلى أي اتفاق مستقبلي مع سوريا”.
إقرأ أيضاً: جنوب سوريا: وسط ضوضاء التطبيع .. إسرائيل تسعى لفرض واقع جديد
خلفيات سياسية داخلية: نتنياهو بين الحرب والتطبيع
رغم ما قد توحي به هذه التصريحات من جدّية، فإن توقيتها وطريقة تسويقها الإعلامي يثيران شكوكًا حول دوافعها الحقيقية. إذ يرجّح أن تكون هذه التسريبات موجّهة بالأساس للرأي العام الإسرائيلي، كجزء من استراتيجية سياسية يتبعها “بنيامين نتنياهو” لتخفيف الضغوط الداخلية التي يواجهها، سواء من جهة ملفات الفساد التي تلاحقه أو من جهة تداعيات الحروب المفتوحة التي تورّط فيها على أكثر من جبهة، وفي هذا السياق، قد يشكّل التلويح بمسار تفاوضي جديد مع سوريا محاولة لصرف الأنظار عن تلك الأزمات، وإعطاء الانطباع بوجود إنجازات سياسية توازي الأثمان الباهظة للمعارك.
إلى جانب ذلك، يمكن قراءة هذه التسريبات كجزء من محاولة إسرائيلية ممنهجة للضغط على السلطة السورية، والتأثير على صورتها أمام جمهورها الداخلي، من خلال الترويج لفكرة استعدادها للتنازل عن أجزاء من الأراضي السورية، وهو ما من شأنه أن يضعف شرعيتها ويثير الشكوك في صدقيتها الوطنية. غير أن مثل هذا التنازل – إن صحّت المزاعم – يناقض نصوص الإعلان الدستوري السوري الجديد.
المحادثات الجارية لا تزال حتى اللحظة في إطار جس النبض واختبار النيات، مع عدم وجود مؤشرات ملموسة على وجود قناة تفاوض فعلية ومباشرة “بحسب الرواية السورية الرسمية “. إلا أن وتيرة هذه التسريبات، وتكرارها، يعكس رغبة إسرائيلية حقيقية في اختبار الأرضية السياسية لهذا المسار، سواء لتحقيق مكاسب تكتيكية، أو لإعادة ربط الملف السوري بأجندة واشنطن الإقليمية.
إلى جانب ذلك يمكن قراءة التحرك الإسرائيلي في ظل السياق الإقليمي المتغير، محاولة من “تل أبيب” لتوسيع دائرة الدول العربية المُطبعة، مستغلة حاجة سوريا الجديدة إلى الدعم المالي والسياسي، وتُوظف “تل أبيب” هذا الظرف لتقوية موقفها التفاوضي، مستندة إلى دعم أميركي واضح، ووسط انشغال دولي بتبعات ما بعد الحرب السورية.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تفرض واقعًا جديدًا في الجنوب السوري.. وصمت حكومي يثير الغضب الشعبي
عقبة الإعلان الدستوري السوري ومخاطر الشرعية
الطروحات والتسريبات الإسرائيلية تصطدم بعقبة جوهرية: الإعلان الدستوري السوري الجديد، الذي نصّ صراحة على أن الجمهورية العربية السورية لا تتجزأ، ولا يجوز التخلي عن أي جزء من أراضيها، وهو إعلان وقّعه رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع.
وعليه، فإن أي اتفاق لا يراعي مسألة السيادة، وخصوصًا في الجولان، سيكون محفوفًا بإشكالات قانونية وسياسية داخلية، فضلًا عن صعوبة تمريره شعبيًا في بلد لم يخرج بعد من أطلال الحرب والانقسام.
من جهة أخرى، فإن انخراط السلطة السورية الانتقالية في أي عملية تفاوض دون تفويض شعبي واضح، أو توافق سياسي داخلي، قد يعرّضها لاتهامات ببيع الأرض تحت وطأة الضغوط. كما أن تقديم أي تنازل – حتى لو كان جزئيًا أو مؤقتًا – بشأن الأراضي المحتلة، سيُفسر على أنه رضوخ للابتزاز، ما سيضعف موقعها محليًا ويؤثر على شرعيتها الوليدة.
قنوات خلفية ووساطات أميركية
دمشق نفت عبر مصدر رسمي، صحة الأنباء التي تحدثت عن وجود اتفاق سلام وتطبيع وشيك مع “إسرائيل”، مؤكدة أن هذه التصريحات “سابقة لأوانها” ولا تستند إلى أي تطورات حقيقية على الأرض.
رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع أكد خلال لقائه مع وجهاء القنيطرة والجولان، أن سوريا تعمل عبر قنوات دبلوماسية ومفاوضات غير مباشرة مع وسطاء دوليين لوقف التوغلات والاعتداءات الإسرائيلية في المنطقة، مشددًا على أن الحفاظ على السيادة السورية فوق كل اعتبار.
وفي هذا السياق، كشفت مصادر إعلامية أن المبعوث الأميركي توماس باراك قد طرح خلال زيارته الأخيرة إلى “تل أبيب” فكرة تفاهم أمني جديد في الجنوب السوري، يمكن أن يستبدل اتفاق 1974 باتفاق محدث يأخذ بعين الاعتبار المعطيات الميدانية والسياسية الجديدة، ويمهد لاحقًا لمسار سياسي محدود.
إقرأ أيضاً: سوريا بين خطوط النار: كيف تُرسم ملامح المستقبل في ظل الحرب الإسرائيلية – الإيرانية؟
بين الحسابات السياسية والواقع الميداني
وتبرز “إسرائيل” كقوة احتلال تحاول استغلال المرحلة الانتقالية الحساسة في سوريا لإعادة تشكيل المشهد بما ينسجم مع أطماعها ومصالحها الأمنية والسياسية، وطموحاتها الإستراتيجية في المنطقة بشكل عام، وهي تراهن على أن حاجة سوريا الجديدة للاعتراف والدعم ستدفعها إلى القبول بتفاهمات جزئية قد تُسهم في تعويم التطبيع تدريجيًا.
أمام هذا الواقع، تبقى الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل تستطيع دمشق مقاومة هذه الضغوط، والتمسك بإعلانها الدستوري؟ أم أن حسابات الضرورة ستفرض منطق التسويات المؤلمة؟ وهل سيكون الثمن هذه المرة، ليس فقط الصمت عن الجولان، بل الدخول في مرحلة تفاوض تبدأ من خارجه؟
يظل مسار التطبيع بين سوريا و”إسرائيل” محاطًا بالغموض. لكنه بلا شك دخل مرحلة جديدة، لم تعد فيها التساؤلات تدور حول “إن كان”، بل حول “متى” و”بأي ثمن”.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تربط تطبيع العلاقات مع سوريا بالاعتراف بسيادتها على الجولان المحتل