“تفكك الدولة أم تفكك الاقتصاد؟ كيف يهدد صعود الهويات العشائرية مستقبل سوريا الموحّدة”

تشهد سوريا في الآونة الأخيرة تصاعدًا لافتًا في الحوادث الأمنية والتوترات الطائفية في مناطق مختلفة، كان أبرزها في مدينة اللاذقية شمال غربي البلاد، حيث برزت شعارات تطالب بالفيدرالية وأخرى بطابع طائفي، ما أعاد إلى الواجهة واحدًا من أكثر السيناريوهات إثارة للجدل حول مستقبل البلاد: عودة “سوريا العشائرية” وتقسيمها إلى كيانات محلية صغيرة.

ورغم أن هذا السيناريو يُقرأ غالبًا في إطار سياسي، فإن تبعاته الاقتصادية والاجتماعية لا تقل خطورة، إذ يمكن لتحوّل البنية الإدارية من دولة مركزية إلى نظام قائم على الولاءات المحلية أن يعيد رسم خريطة الموارد بالكامل، ويقود إلى تفكك الأسواق الوطنية وتآكل المؤسسات التي تربط بين القطاعات الاقتصادية.

جذور فكرة التقسيم… وعودة المخاوف

فكرة تقسيم سوريا إلى أربع وحدات جغرافية وطائفية—عربية سنية في الوسط، درزية في الجنوب، علوية في الغرب، وكردية في الشمال—ليست جديدة، إذ تعود أولى ملامحها إلى أواخر الستينيات، وتم إحياؤها إعلاميًا وسياسيًا بعد أحداث السويداء الأخيرة. ومع تجدد الحديث عنها، يتخوف خبراء واقتصاديون من تحوّل التفكك الإداري إلى تفكك اقتصادي يضرب ما تبقى من بنية الدولة الحديثة.

تشير بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن سوريا فقدت نحو 800 مليار دولار من القيمة التراكمية للناتج المحلي بين 2011 و2024. ومع بقاء الناتج الفعلي عند مستويات متدنية مقارنة بما قبل الحرب، فإن أي خطوة إضافية نحو التقسيم أو اللامركزية غير المنظمة قد تشكل صدمة جديدة تزيد هشاشة الاقتصاد السوري.

اقتصاد بلا سلسلة قيمة

التقسيم الفعلي للمناطق بحسب الولاءات العشائرية أو الإقليمية يهدد التكامل القطاعي الذي يميز الاقتصاد السوري:

  • الزراعة متركزة في الجنوب والشمال الشرقي

  • الصناعة التقليدية في حلب

  • المرافئ في الساحل

  • النفط والغاز في الشرق

انفصال هذه المناطق سيعني عمليًا انهيار سلسلة القيمة: لن تجد المنتجات الزراعية طريقها إلى المعامل أو الموانئ بتكلفة معقولة، والمصانع ستفقد المواد الخام والطاقة، فيما تتضاعف رسوم العبور غير الرسمية على الطرق والحواجز، لتتحول طرق التجارة إلى مورد للجبايات بدل أن تكون مسارًا للسلع.

هذا النوع من الانفصال المالي يقلل قدرة الدولة على التحصيل الضريبي، ويدفع الاقتصادات المحلية إلى الاعتماد على القنوات غير الرسمية.

الطاقة والغذاء… قطاعات مهددة بالتشظي

قطاع الطاقة يُعد مثالًا واضحًا على هذه الديناميكيات. فشرق الفرات الذي كان يشكل “خزان سوريا النفطي”، تراجع إنتاجه من 386 ألف برميل يوميًا قبل 2011 إلى أقل من 100 ألف برميل تحت إدارة محلية ذات طابع عشائري، تُوزَّع عائداته عبر قنوات غير رسمية ولا تدخل في الميزانية الوطنية.

الأمر ذاته يظهر في قطاع الغذاء: محافظة الحسكة التي كانت تنتج نحو 40% من القمح السوري باتت تشهد تفكيكًا للسوق، مع فرض إتاوات على الشحن قد تصل إلى 30% من قيمة الحمولة. هذه الرسوم ترفع أسعار السلع الأساسية وتعمّق أزمة الأمن الغذائي التي تطال 12.9 مليون سوري وفق برنامج الأغذية العالمي.

سيادة منقوصة وتدخل خارجي

كلما ضعفت الإدارة المركزية، ازداد نفوذ القوى الإقليمية والدولية التي تقدم دعمًا ماليًا لمناطق محددة، مقابل الحصول على موارد أو مواقع نفوذ. ومع تعدد السلطات المتحكمة على الأرض، تتوسع الأسواق السوداء وتضيق فرص الاستثمارات الأجنبية، فيما تتفتت السياسة النقدية إلى “جزر مالية” تعتمد أسعار صرف أو عملات مختلفة.

النتيجة المحتملة: تضخم مرتفع، ضعف احتياطيات النقد الأجنبي، ارتفاع تكاليف الاستيراد، وانهيار قدرة الدولة على تقديم الخدمات.

تجارب اليمن وليبيا والصومال… تحذيرات صارخة

تُظهر التجارب المعاصرة في اليمن وليبيا والصومال أن تفكك الدولة يؤدي إلى اقتصاد قائم على الجباية و”الحماية”، لا على الإنتاج. تتراجع الخدمات، ترتفع معدلات الفقر، وتتحول الموانئ والمعابر إلى نقاط نفوذ لنخب محلية، بدل أن تكون أدوات لرفد الاقتصاد الوطني.

وبحسب خبراء، فإن أي سيناريو مشابه في سوريا سيقود إلى تراجع حاد في الخدمات الأساسية والتعليم والصحة، ويخلق بيئة طاردة للاستثمار ورأس المال البشري.

دور العشائر… استقرار ظرفي أم وصفة للفوضى؟

الخبير الاقتصادي فراس شعبو لموقع الحل يرى أن فهم المسار الاقتصادي لسوريا يستوجب دراسة الجذور الاجتماعية. فالعشائر كانت تاريخيًا إطار الثقة الأول وشكلت قاعدة البنية الاجتماعية الممتدة من سوريا والعراق إلى الخليج. ورغم التمدّن، لا يزال هذا الإرث حاضرًا بقوة.

ويشير شعبو إلى أن الأنظمة المتعاقبة استخدمت العشيرة لضبط المجتمعات، وهو نهج واصلت تطبيقه جهات مختلفة مثل “قسد” والسلطات القائمة بعد التحرير. إلا أنه يحذر من أن تراجع سلطة الدولة قد يحول البنى العشائرية إلى سلطات محلية تدير الموارد والأمن والخدمات، مكونة “كانتونات” تفرض رسومها وأسعارها الخاصة.

وبرأيه، فإن مثل هذا النموذج سيقود إلى انهيار الاستثمار، وهجرة رؤوس الأموال، وعودة الولاء القبلي ليكون معيار توزيع الموارد، بدلًا من المؤسسات الرسمية.

الاقتصاد القائم على الولاءات… طريق نحو الانهيار

يؤكد شعبو أن توسع الاقتصاد القائم على الولاءات المحلية خارج إطار الدولة يشكل خطرًا وجوديًا، لأنه يقوّض قدرة الحكومة على التنظيم والجباية، ويفتح المجال أمام اقتصاد ظل غير خاضع لأي قواعد. ومع غياب مؤسسات جامعة، تنهار القوة الشرائية وتتصاعد تكاليف المعيشة، ما يدفع البلاد نحو دوامة فقر شبيهة بما شهدته بعض مناطق العراق.

تحذيرات من “خسائر لا يمكن تعويضها”

الخبير الاقتصادي مجدي الجاموس لموقع الحل يرى أن مجرد طرح سيناريو “سوريا العشائرية” يجب أن يكون جرس إنذار يُبرز المخاطر الهائلة التي قد تنتج عن تفكك المنظومة الاقتصادية الوطنية.

ويؤكد أن القوة الحقيقية للاقتصاد السوري تكمن في تكامله الجغرافي: محاصيل الجنوب مرتبطة بمصانع الشمال، والنفط الشرقي يغذي الصناعة والنقل، والمرافئ الساحلية بوابة التصدير، والمعابر البرية شريان حركة التجارة. أي كسر لهذه الشبكة المتصلة يعني عمليًا تعطيل قدرة البلاد على استثمار مواردها، والدخول في دوامة من الخسائر التي يصعب وقفها.

وبحسب الجاموس، فإن تقسيم البلاد إلى كيانات تقوم على الولاء القبلي أو الطائفي سيدفع كل منطقة للبحث عن داعم خارجي، ما يعني رهن القرارات السيادية والموارد المحلية لمصالح دولية. وهذا بدوره يمنع تشكيل سوق موحدة أو بيئة إنتاجية مستقرة، ويجعل كل منطقة تعمل بقواعد وتشريعات مختلفة لا تسمح بقيام اقتصاد وطني.

تهديد مباشر للناتج المحلي والاستثمار

قبل 2011 بلغ الناتج المحلي السوري بين 50 و60 مليار دولار، أما اليوم فلا يتجاوز 30% من قيمته السابقة. ويرى الجاموس أن أي تفكك إداري أو جغرافي قد يطيح بما تبقى من الناتج المحلي، مُقدّرًا الخسائر المحتملة بما يزيد عن 30 مليار دولار إضافية.

كما يحذر من أن اقتصاد الجبايات الذي قد ينشأ مع تعدد السلطات المحلية سيعيق التجارة، ويحول المعابر إلى نقاط نفوذ، ويخلق فجوات ضخمة في الأسعار والرسوم، ويغرق المواطنين في مزيد من الفقر.

تفكك نقدي وخدماتي

مع تعدد السلطات، قد تلجأ كل منطقة إلى اعتماد عملتها الخاصة أو سعر صرف مختلف. هذا التفكك النقدي يؤدي إلى تضخم كبير، ويمنع الدولة من ضبط الأسعار، ويهدد الأمن الغذائي، ويعطل الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ومياه وطاقة.

وتصبح البلاد في ظل هذا الوضع بيئة غير صالحة للاستثمار أو لخلق فرص عمل، ما يدفع الكفاءات ورؤوس الأموال للهجرة.

خيار الدولة الموحدة… ضرورة وجودية

يتفق الخبراء على أن الحفاظ على وحدة سوريا ليس خيارًا سياسيًا فقط، بل شرط لاستمرار أي حياة اقتصادية. فلا تنمية دون إطار تشريعي موحد، ولا إنتاج دون ربط جغرافي بين المحافظات، ولا استثمار دون مؤسسات مركزية تحمي الموارد وتديرها.

ويأمل الاقتصاديون أن تتجه سوريا نحو مرحلة تعافٍ تستند إلى الاستقرار ووحدة الأراضي، بعيدًا عن سيناريوهات التفكك التي قد تحول البلاد إلى جزر اقتصادية منفصلة تحكمها الولاءات القبلية والإقليمية بدل مؤسسات الدولة.

في هذا السياق، يوضح الجاموس أن السيناريو العشائري لا يمثل مجرد خطر سياسي، بل انقلابًا كاملًا على هوية الاقتصاد السوري، ما قد يضع البلاد على مسار يصعب الرجوع عنه إذا تُرك ليتشكل على الأرض.

اقرأ أيضاً:مجلس عشائر الهفيركا الكردية في الحسكة.. محاولة لتوازن جديد مع العشائر العربية

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.