مستقبل النفوذ الروسي في سوريا بعد سقوط الأسد: حضور متواضع بمكاسب استراتيجية
بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي، توقّع كثيرون أن ينتهي الوجود الروسي في سوريا بسرعة. ومع صعود أحمد الشرع إلى سدة الحكم في دمشق، تصاعدت التحليلات التي أشارت إلى أن الوجود العسكري الروسي بات “معلّقًا بخيط رفيع”، وفق توصيف مجلة “الإيكونوميست”.
لكن التطورات الأخيرة أظهرت أن موسكو لم تفقد تمركزها الاستراتيجي في سوريا، بل سارعت إلى إعادة تموضعها السياسي والعسكري، محافظة على قواعدها الحيوية في طرطوس وحميميم، ومرسخة وجودها في شمال شرقي البلاد.
الروس يعيدون التموضع بعد سقوط الأسد:
رغم خسارتها لحليف استراتيجي في الشرق الأوسط، لم تُبد روسيا أي نية للانسحاب. ووفقًا لمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، تحركت الدبلوماسية الروسية سريعًا للتقرب من الحكومة السورية الجديدة، في محاولة لضمان استمرار نفوذها، خاصة في ملفات الدفاع والطاقة.
وتعاملت القيادة السورية الجديدة ببراغماتية واضحة، إذ تسعى إلى الاستفادة من الدعم الروسي في ملفات عديدة، مثل توريد القمح والوقود، وضمان المواقف الداعمة في مجلس الأمن الدولي، وحتى إمكانية الحصول على أسلحة روسية لإعادة بناء قدراتها الدفاعية.
موازين النفوذ: روسيا لاعب ثانوي بموقع استراتيجي:
رغم تمسّك روسيا بوجودها العسكري، إلا أنها لم تعد اللاعب الأهم في الملف السوري. ومع انشغالها في الحرب في أوكرانيا، باتت موسكو تفتقر إلى الموارد الكافية للعب دور فاعل في إعادة الإعمار أو التأثير على المشهد السياسي الداخلي.
تعتقد “فورين أفيرز” أن الدول الأكثر قدرة على رسم مستقبل سوريا ستكون الولايات المتحدة، دول الخليج، تركيا، والدول الأوروبية. وبالتالي، فإن التحدي الأكبر أمام روسيا اليوم هو الحفاظ على موطئ قدمها دون خسارة المكاسب التي راكمتها منذ 2015.
روسيا ورقة توازن بين القوى الإقليمية:
ترى كل من “إسرائيل“، تركيا، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في روسيا طرفًا يمكن استخدامه لضبط إيقاع خصومهم في سوريا. فبينما تريد أنقرة وجودًا روسيًا يحد من النفوذ الكردي، تأمل “إسرائيل“ في استغلال روسيا لضمان توازن القوى ومنع تقارب دمشق مع إيران، فيما تسعى قسد لبناء شراكة مع موسكو تحميها من تخلي واشنطن المحتمل أو ضغوط دمشق.
وتوضح المجلة أن هذه الأطراف الثلاثة – رغم تباين أهدافها – تفضل بقاء روسيا كلاعب متواضع لكنه متماسك في سوريا، يُمكن توظيفه حسب الظروف.
الدعم الروسي لحكومة الشرع الجديدة:
في أعقاب سقوط الأسد، أوقفت موسكو وصف هيئة تحرير الشام بـ”الجماعة الإرهابية”، وعززت علاقاتها الرسمية مع الحكومة الانتقالية الجديدة. وفي كانون الثاني/يناير 2025، أبدى دبلوماسيون روس دعمهم لـ”كفاءة” الحكم الجديد في دمشق.
ولم تقتصر المساعدات الروسية على الجانب السياسي فقط، بل شملت أيضًا شحنات النفط والديزل والقمح، إضافة إلى التعاون في طباعة العملة السورية عبر شركة “غوزناك” الخاضعة لعقوبات دولية.
القواعد الروسية: خط أحمر في السياسة الخارجية لموسكو:
تولي روسيا أهمية قصوى لقواعدها في طرطوس وحميميم، إذ تعتبرها منصات لوجستية استراتيجية في عملياتها عبر الشرق الأوسط وأفريقيا. وتشير “فورين أفيرز” إلى أن الحفاظ على هذه القواعد هو الهدف الأهم للكرملين، وليس الهيمنة السياسية أو الاقتصادية.
وتُظهر دمشق تفهماً لهذه الرغبة، إذ ألمح وزير الدفاع السوري الجديد إلى أن وجود روسيا في البلاد “مقبول طالما يخدم مصالح سوريا”، مضيفًا أن “السياسة لا تعرف أعداء دائمين”.
موقف الغرب: توازن لا تصعيد:
رغم قلق العواصم الغربية من الدور الروسي المستمر في سوريا، ترى “فورين أفيرز” أن التصعيد مع الحكومة السورية الجديدة قد يكون غير منتج. وتوصي المجلة بأن تركز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على دعم الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار، بدلًا من الضغط لقطع علاقات دمشق مع موسكو.
وتحذر المجلة من أن دفع الحكومة السورية نحو العداء مع روسيا قد يدفعها أكثر نحو أحضان الكرملين، في وقت تبحث فيه عن بدائل للدعم الغربي.
خلاصة: روسيا حاضرة ولكنها ليست مهيمنة:
تشير جميع المعطيات إلى أن روسيا لن تكون صاحبة اليد العليا في مستقبل سوريا، لكنها ستظل لاعبًا مهمًا بحضور محدود يخدم مصالح أطراف عديدة في الإقليم.
ومع تقاطع المصالح الإسرائيلية والتركية والكردية حول بقاء روسيا كلاعب توازن، وبقاء حاجة دمشق لدعم اقتصادي وسياسي، من المرجح أن يستمر الحضور الروسي بشكله الحالي، دون توسّع، ولكن أيضًا دون انكماش كبير.
توصيات للغرب: كسب دمشق لا عزلها:
تختتم “فورين أفيرز” تحليلها بالتأكيد على أن أفضل استراتيجية غربية لاحتواء النفوذ الروسي في سوريا، لا تكون عبر المواجهة المباشرة، بل من خلال بناء علاقات متينة مع دمشق الجديدة، ودعمها اقتصادياً وسياسياً، وتشجيعها على سياسة خارجية متعددة الاتجاهات.
في الوقت الراهن، يبدو أن القيادة السورية الجديدة تسعى لعلاقات متوازنة مع جميع الأطراف، والانفتاح على الغرب لا يزال خياراً مطروحاً إذا ما قوبل بعرضٍ واقعي يدعم استقرار البلاد ويخفف من آثار الحرب والعقوبات.
إقرأ أيضاً: مصدر حكومي: زيارة مرتقبة للشرع إلى روسيا
إقرأ أيضاً: روسيا تعيد تموضعها في سوريا: عودة عسكرية واقتصادية تشمل الجنوب والشمال الشرقي