الاتصالات في سورية: أسعار تتصاعد وخدمات تتراجع
تشهد سورية خلال الأيام الأخيرة موجة واسعة من الاستياء الشعبي عقب الارتفاع الكبير في أسعار خدمات الاتصالات، في ظل غياب أي تحسين ملموس في جودة الخدمة المقدّمة. وجاءت الأزمة عقب قرار شركتَي سيرياتيل وMTN سورية رفع الأسعار، بالتزامن مع بيان لوزارة الاتصالات خلصت فيه إلى التنصّل من مسؤوليتها، معتبرة أن الشركتين “خاصتان ومستقلتان مالياً وإدارياً”. إلا أن هذا الطرح يتعارض مع الواقع القانوني الذي يفترض خضوع الشركتين لرقابة الهيئة الناظمة للاتصالات، بوصفهما مشغّلين يتمتعان بـ”وضع مهيمن” في السوق السورية.
فجوة واسعة بين الأسعار والجودة
تظهر المقارنات الإقليمية وجود فجوة كبيرة بين مستوى خدمات الاتصالات في سورية ونظيراتها في المنطقة. فرغم ارتفاع التكلفة، تسجّل سورية أدنى سرعة إنترنت بين الدول العربية الواردة في المقارنة (3.31 ميغابت/ثانية)، مقابل أعلى كلفة للميغابت (8 دولارات). على النقيض، تأتي مصر كأفضل نموذج من حيث القيمة مقابل السعر، بسرعة تصل إلى 80 ميغابت/ثانية وباشتراك شهري منخفض (8 دولارات)، فيما تتصدر دول الخليج قائمة السرعات، وعلى رأسها الإمارات بسرعة تتجاوز 310 ميغابت/ثانية.
محلياً، لا يقتصر الاحتجاج على الأسعار المرتفعة، بل يتعداه إلى شكاوى من تراجع الباقات المتاحة. فوفق مستخدمين، خفّضت إحدى الشركات حجم بيانات باقة الـ10 جيغابايت لتصبح 1.5 جيغابايت فقط، من دون خفض السعر، ما اعتُبر زيادة فعلية في التكلفة ونقصاً في القيمة المقدمة للمستهلك.
قانون واضح… وممارسة غائبة
على الورق، يمنح قانون الاتصالات السوري الهيئة الناظمة صلاحيات واسعة تشمل تسعير الخدمات، مراقبة الشركات، وحماية المستهلكين من سوء استغلال الشركات ذات الوضع المهيمن. وتنص المادة 42 بوضوح على إلزام أصحاب التراخيص ضمن هذا التصنيف بالحدود العليا والدنيا للأسعار التي تعتمدها الهيئة.
وجود مشغّلين فقط في السوق يجعل كليهما عملياً في موقع الهيمنة، وبالتالي، لا يمكن أن تُعدَّ قرارات تعديل الأسعار شأناً داخلياً للشركتين كما ورد في بيان الوزارة. ويثير هذا التناقض تساؤلات حول فعالية الإطار التنظيمي وقدرته على حماية المستهلك.
أرباح عالية… وتبريرات غير مقنعة
ورغم التبريرات المتعلقة بارتفاع التكاليف التشغيلية وصعوبة تأمين القطع الأجنبي، تكشف البيانات المالية الرسمية للشركتين عن أرباح ضخمة. فقد أعلنت سيرياتيل عن صافي ربح بلغ 489 مليار ليرة سورية في النصف الأول من عام 2025، مع توزيع أرباح بنسبة 8.840% على مساهميها. أما MTN سورية فسجلت نحو 114 مليار ليرة في الفترة نفسها.
الأرقام تُظهر تناقضاً بين خطاب “عدم كفاية الموارد” والربحية المرتفعة، خاصة أن بيانات الشركات المالية تؤكد “مبدأ الاستمرارية”، مشيرة إلى توافر الموارد اللازمة لمتابعة العمل. وتطرح هذه الفجوة أسئلة حول أسباب الزيادات المتكررة للأسعار، وآليات ضبط الأرباح، ومدى التزام الشركات بالاستثمار في تحسين جودة الخدمة.
مشاريع واتجاهات رسمية… وواقع بطيء
رغم تقديم الحكومة مشاريع تقنية كبرى مثل “سيلك لينك” و“برق نت” و“ميدوسا” ضمن خطابها الإعلامي، ما تزال هذه المبادرات في إطار الدراسات الأولية، وسط غياب جداول زمنية واضحة، وضبابية في التمويل. وتشير المعطيات إلى تقدم متفاوت بين مشروع وآخر؛ ففي حين يحقق مشروع “أوغاريت 2” تقدماً في تحديث البنى التحتية البحرية، تتباطأ مشروعات أخرى نتيجة تعقيدات بيروقراطية وغياب الاستثمارات الكافية.
وفي الوقت ذاته، لا تنجح المشاركات الإقليمية في معارض التكنولوجيا مثل “سورية هاي تيك” و“GITEX” في تعويض الفجوة الرقمية المتزايدة بين سورية وجوارها، إذ تظل هذه المشاركات رمزية مقارنة بالتحديات الأساسية في البنية التحتية.
تأثيرات اقتصادية واجتماعية واسعة
قرار رفع أسعار الاتصالات لا يشكل عبئاً مالياً مباشراً على الأفراد فقط، بل يحمل انعكاسات مضاعفة على الاقتصاد والمجتمع، أبرزها:
-
تعزيز التضخم: زيادة تكاليف التشغيل على الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على الإنترنت، ما يدفعها لرفع أسعار منتجاتها وخدماتها.
-
اتساع الفجوة الرقمية: ارتفاع أسعار الإنترنت يجعله خدمة شبه ترفيهية، محدودة الوصول لشرائح واسعة، ويؤثر على التعليم الإلكتروني والخدمات الحكومية وفرص العمل الرقمية.
-
المزيد من العزلة الرقمية: في وقت تتسارع فيه دول الجوار نحو التحول الرقمي، تتراجع سورية في مؤشرات الوصول التقني وجودة الخدمة.
سيناريوهات السياسة الحكومية بين النفي والوعود
يمكن تلخيص توجهات وزارة الاتصالات السورية حالياً في ثلاثة مسارات متوازية:
-
مسار التنصّل القانوني: يؤكد البيان الرسمي أن الشركتين “مستقلتان”، رغم أن القانون يمنح الوزارة والهيئة الناظمة صلاحية ضبط الأسعار، ما يخلق تناقضاً بين النص والممارسة.
-
مسار التبرير بالعجز: استخدام خطاب “ارتفاع التكاليف” لتفسير رفع الأسعار، رغم الأرباح الكبيرة التي تعلنها الشركات.
-
مسار الإصلاح الموعود: مطالبة الشركتين بخطة لتحسين الخدمة خلال 60 يوماً، والإعلان عن نية إدخال مشغل ثالث أو رابع في السوق، وتحديث البنى التحتية.
أزمة حوكمة قبل أن تكون أزمة أسعار
في المحصلة، يعكس الواقع الراهن لقطاع الاتصالات في سورية أزمة أعمق تتعلق بالحوكمة، والرقابة، وغياب المنافسة الحقيقية. فالتناقض بين أرباح الشركات المرتفعة، وتكاليف الخدمة الباهظة، والجودة المتدنية، يترافق مع غياب واضح لدور الجهة التنظيمية، ما يؤدي إلى حالة اختلال في العلاقة بين المستهلك ومقدّم الخدمة.
وتبدو الحاجة ملحّة لإعادة هيكلة شاملة للقطاع، ورسم سياسة اتصالات شفافة تعتمد على توازن واضح بين استمرارية الشركات وقدرة المواطنين على تحمل التكاليف، مع العمل على كسر الاحتكار وخلق بيئة تنافسية تعيد للخدمة قيمتها العادلة وجودتها المنتظرة.
هذه المعادلة، إن طُبقت بجدية، يمكن أن تعيد الثقة إلى قطاع يشكل حجر أساس في أي عملية تحول رقمي وتنموي داخل البلاد.
اقرأ أيضاً:هل رفع أسعار الاتصالات في سوريا شراء للوقت. خبير يحذر من مخطط لبيع البنية التحتية