أزمة المسرح السوري: بين غياب الرؤية وتراجع الدعم
يواجه المسرح السوري، الذي لطالما ترك بصمات خالدة في ذاكرة الجمهور العربي، واحدة من أعقد أزماته على الإطلاق. فخلف أضواء باهتة وخشبات أنهكها الإهمال، يقف هذا الفن العريق مهدداً بالأفول، لا بسبب نقص في المواهب أو الأفكار، بل نتيجة تراكمات طويلة حطمت ركائزه الأساسية: تضييق الرقابة، هجرة الكفاءات، ارتفاع تكاليف الإنتاج، وتراجع الدعم الرسمي. وبين هذه التحديات، يبدو المسرح مكبلاً، يكاد يغيب تماماً عن المشهد الثقافي.
في محاولة لفهم واقع هذا القطاع والحلول الممكنة لإنقاذه، طرحت سورية الجديدة أسئلتها على مجموعة من المسرحيين، فجاءت إجاباتهم كاشفة لجذور الأزمة وتشابكاتها.
غياب شبه كامل للمسرح السوري
يرى المخرج والكاتب المسرحي عجاج سليم أن المشكلة الأكبر ليست في تراجع المسرح، بل في اختفائه شبه التام منذ أكثر من عام، باستثناء نشاط محدود لفرق الهواة. ويشير إلى أن المسرح السوري لم يكن بخير حتى قبل سقوط النظام، وأن ما قُدّم خلال السنوات الماضية كان بجهود فردية لا تستند إلى دعم مؤسساتي أو خطة واضحة. ويؤكد أن الحل يبدأ بإعادة تفعيل دور وزارة الثقافة عبر دعم الفرق الجادة، وإعادة إطلاق المسرح القومي وفق برنامج سنوي منظم، إضافة إلى عقد مؤتمر وطني يجمع العاملين في هذا القطاع لوضع تصور مشترك لمرحلة النهوض.
أزمة ممتدة منذ عقود
من جانبه يرى الناقد والكاتب المسرحي جوان جان أن المشكلات التي يعاني منها المسرح السوري تعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً. ويوضح أن الثورة التلفزيونية ساهمت في تفاقم الأزمة لكنها لم تكن سببها الأول. ويعتبر أن أحد مظاهر المشكلة يتمثل في احتدام الجدل حول مفهوم “التجريب”، إذ تحوّل في أحيان كثيرة إلى ذريعة لتقديم عروض مبهمة تركز على الاستعراض البصري أكثر من المضمون. وبرأيه، فإن الحديث عن حلول حقيقية يكاد يكون مستحيلاً في ظل غياب رؤية واضحة لإحياء الحركة المسرحية.
العزلة وضعف المشاركة الخارجية
الممثلة والمخرجة رنا جمول تشير إلى مشكلة مختلفة: غياب ميزانية خاصة لمشاركات المسرح السوري في المهرجانات العربية، ما أدى إلى عزلة متزايدة للعروض المحلية عن محيطها. وتوضح أن العديد من الدعوات تُرفض ببساطة لأن الجهات المنظمة لا تغطي تكاليف السفر، بينما لا توفر المؤسسات السورية ميزانية لهذه المشاركات.
وترى الأستاذة في المعهد العالي للفنون المسرحية راما عيسى أن الأزمة الحقيقية تكمن في النظرة الهامشية للمسرح، إذ يُعامل كرفاهية لا كضرورة ثقافية. وتؤكد أن التمويل الكريم والكافي كفيل بإحداث تغيير جذري، فالمواهب موجودة والشغف لا ينقص العاملين، لكن الدعم المادي وحده ما يمكن أن يعيد للمسرح مكانته.
ويتفق معها الممثل يوسف المقبل الذي يعتبر أن السبب الأكبر لتراجع المسرح بعد 2011 هو ضعف التمويل، ما دفع كثيرين للاتجاه إلى التلفزيون. ويشير إلى أن بعض المخرجين اضطروا لكتابة نصوص قليلة الشخصيات لتقليل التكلفة، في حين هجر كتّاب المسرح هذا الفن بسبب ضآلة العائد المادي.
نزوح نحو السينما والتلفزيون
المخرج رائد مشرف يؤكد بدوره أن ندرة الإنتاج المسرحي دفعت العديد من الفنانين للانتقال إلى التلفزيون والسينما، حيث العائد المادي أفضل. ويشدد على ضرورة قيام الدولة بدورها في رعاية المسرح وتوفير ظروف العمل اللائقة، مؤكداً أن إنتاج عرضين سنوياً للمسرح القومي غير كافٍ لإحياء هذا القطاع.
أزمات فكرية وجمالية أيضاً
أما المخرج مأمون الخطيب فيرى أن أزمة المسرح السوري ليست مالية فقط، بل هي أيضاً أزمة فكرية وجمالية. فغياب المشاريع الفنية الواضحة وابتعاد النصوص عن القضايا الإنسانية العميقة أدّيا إلى عروض متكررة وخطابية. كما أن الجمهور ابتعد نتيجة الظروف الاقتصادية وضعف الترويج، في حين تسببت الهجرة في فقدان خبرات أساسية. ويطرح الخطيب سلسلة حلول، منها توفير تمويل مستقر، ودعم التجارب الشابة، وتحديث مناهج التعليم المسرحي، وتعزيز النقد الفني.
بيروقراطية قاتلة وهيمنة النصوص التقليدية
الممثلة رايسا مصطفى تسلط الضوء على أزمة النص المسرحي، مشيرة إلى غياب كتّاب جدد قادرين على معالجة قضايا المجتمع بلغة معاصرة. وترى أن المؤسسات الثقافية تحولت إلى هياكل بيروقراطية تحدّ من حرية الإبداع، وتفرض قيوداً سياسية وفكرية على العروض. وتدعو إلى دعم مستقل للمسرح خارج الإطار الرسمي، وتمكين التجارب الشبابية بميزانيات ثابتة.
الممثل خوشناف ظاظا يعزز هذا الطرح، مؤكداً أن التحديث التقني والفكري غائب عن الكثير من التجارب المسرحية، وأن الجمهور نفسه بات أسير ضغوط الحياة التي تبعده عن حضور العروض. ويشير إلى أن العصر الذهبي في الستينيات والسبعينيات لم يجد امتداداً حقيقياً في العقود اللاحقة.
المسرح يلفظ أنفاسه الأخيرة؟
أكثر التقييمات تشاؤماً جاءت من الممثلة عبير بيطار التي اعتبرت أن المسرح السوري “يلفظ أنفاسه الأخيرة”، خصوصاً مع غياب الكوادر المتخصصة وافتقار المحافظات إلى الدعم الفني والتقني. وتشير إلى عجز المؤسسات عن مواكبة التطورات البصرية الحديثة، مؤكدة أن أي إصلاح حقيقي يتطلب بنية اقتصادية قوية، وتطويراً تقنياً وبشرياً شاملاً.
برغم هذا المشهد القاتم، يتفق معظم المسرحيين على أن الحل ليس مستحيلاً: الدعم، وتحرير المؤسسات من البيروقراطية، وإعادة ربط المسرح بالجمهور، وإحياء روح التجريب الحقيقي. لكن السؤال يبقى: هل تستطيع سوريا، في ظل ظروفها الحالية، أن تعيد للمسرح دوره التاريخي كمرآة للمجتمع وفضاء للحرية والتفكير؟
اقرأ أيضاً:سورية والسعودية تتفقان على إنشاء محطتي كهرباء بالطاقة المتجددة