“اقتصاد الظل” في سوريا: من شريان حياة اضطراري إلى رهان للتعافي الاقتصادي؟
منذ عام 2011، تراجع الاقتصاد السوري الرسمي بشكل كبير، ليحل محله “اقتصاد الظل” أو “الاقتصاد الخفي” الذي يعمل بعيدًا عن الأطر القانونية والرقابية. هذا الاقتصاد غير الرسمي، الذي يشمل كل شيء من التحويلات المالية غير الرسمية إلى التجارة بدون تراخيص وتوظيف مئات الآلاف، أصبح شريان حياة رئيسيًا للسوريين في ظل تراجع قدرة الدولة على الرقابة.
مع قرار الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا مؤخرًا، يبرز تساؤل كبير: هل يمكن لهذا الاقتصاد الموازي، الذي ازدهر تحت ضغط الأزمات والعقوبات لأكثر من عقد، أن يتحول إلى قوة دافعة للتعافي الاقتصادي؟
لماذا ازدهر “اقتصاد الظل”؟
يزداد “اقتصاد الظل” فعالية مع تفاقم الفوضى الاقتصادية، وتراجع هيبة الدولة، وزيادة الفجوة بين الإنتاج المحلي والطلب الكلي، وانتشار التهريب. كما أن تحويل المناصب الحكومية للمصلحة الخاصة، وزيادة البيروقراطية الاقتصادية، وغياب الشفافية في الأنظمة والقوانين، كلها عوامل ساهمت في نموه.
وفقًا لتقديرات غير رسمية، يُقدر أن “اقتصاد الظل” يمثل أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي في سوريا منذ عام 2015، مع توسع أكبر في المناطق النائية والمخيمات والبلدات الخارجة عن السيطرة المركزية. وقد ازدادت نسبته بشكل خاص بعد تشديد العقوبات الأمريكية (قانون قيصر 2020)، حيث أصبح من المستحيل تقريبًا على العديد من التجار أو العاملين الحصول على تراخيص أو تحويل الأموال عبر القنوات الرسمية. في هذه البيئة، تحولت الدولة السورية من لاعب اقتصادي مركزي إلى مراقب عاجز أمام تمدد اقتصاد بديل، غير رسمي وغير خاضع للضرائب.
لم يكن “اقتصاد الظل” مجرد رد فعل على الأزمات، بل أصبح نظامًا منافسًا للقطاع الرسمي، يقدم ما عجزت عنه الدولة: فرص عمل، ومصادر دخل، وتدفق سلع، وخدمات مصرفية بديلة. لقد أنقذ هذا الاقتصاد شرائح واسعة من السوريين من الفقر المدقع الذي وصل إلى أكثر من ربع السكان وفق تقديرات البنك الدولي. ومع ذلك، فقد أدى في المقابل إلى تفكيك النظام الاقتصادي المركزي وخلق طبقة جديدة من المستفيدين من استمرار غياب الدولة.
“اقتصاد الظل”: ضرورة وواقع متجذر
امتد هذا الاقتصاد غير الرسمي إلى قطاعات كبيرة. على سبيل المثال، تتم التحويلات المالية خارج المصارف عبر شبكات خاصة أو نقدية، والتي انتشرت بشكل واسع. كما يشمل التهريب عبر الحدود وبيع البضائع المستوردة دون جمارك. الآلاف من الورش تعمل خارج رقابة المالية أو البلديات، حتى أن أكثر من نصف العمالة السورية باتت غير مسجلة أو بلا عقود.
لقد حولت الحرب والعقوبات “اقتصاد الظل” إلى ضرورة، لكنه في المقابل خلق نظامًا موازيًا بعيدًا عن الضرائب أو الحماية القانونية، ومبتعدًا عن المساهمة الفعلية في الإنفاق العام أو إعادة الإعمار. أدى فشل البنية الاقتصادية الرسمية، المحكومة بالبيروقراطية والعجز المالي وانهيار الثقة بالمؤسسات، إلى انسحاب السوريين منها تدريجيًا. اعتمدت ملايين الأسر على شبكات غير رسمية للحوالات، والأسواق الشعبية العشوائية، وعلى شبكات تجارية “محمية” من المحاسبة والرقابة.
جولة قصيرة في شوارع وأسواق دمشق، على سبيل المثال، تكشف حجم النشاط الاقتصادي الذي يدور خارج الدولة. فالبضائع التركية والعراقية واللبنانية تنتشر وتُباع دون فواتير، وأحيانًا بالدولار أو بالليرة بسعر غير رسمي، دون أن تمر عبر الجمارك أو الضرائب. وقد تضخم هذا النشاط بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة.
في قطاع التحويلات المالية، مثّلت شركات الصرافة غير الرسمية والأفراد الخيار الوحيد لتلقي الأموال من الخارج، بعد إدراج البنوك السورية على قوائم العقوبات وتزايد تكلفة ومخاطر التعاملات المصرفية الرسمية. تشير تقديرات إلى أن أكثر من 80% من الحوالات المالية إلى الداخل السوري تمر عبر قنوات غير رسمية، مما يعني أن مليارات الليرات شهريًا تدور في اقتصاد غير مراقب.
ينطبق الأمر نفسه على سوق العمل، حيث يعمل أكثر من نصف السوريين، بحسب بعض التقديرات، في وظائف لا تشملهم مظلة التأمينات أو الضمان الاجتماعي أو عقود العمل النظامية. من عمال البناء إلى سائقي التاكسي، ومن الحرفيين إلى الباعة الجوالين، يعيشون جميعًا على هامش الدولة، دون حماية قانونية أو مساهمة في دورة الاقتصاد الرسمي. ورغم ما في ذلك من مرونة وسرعة تكيف مع الأزمات، إلا أن التمدد غير المحكوم لهذا الاقتصاد أدى إلى تعزيز ثقافة الريع والتهرب الضريبي والاعتماد على الفوضى. كما نشأت شبكات مصالح بين فاعلين محليين ووسطاء اقتصاديين، مما جعل من الصعب تفكيك هذه المنظومة حتى لو توفرت الإرادة السياسية لذلك.
إمكانية التحول إلى اقتصاد شرعي: سيناريوهات وتحديات
مع إلغاء العقوبات التي كانت مفروضة على سوريا، يبرز السؤال حول إمكانية تحويل هذا الاقتصاد المتضخم إلى اقتصاد شرعي، أم أنه أصبح منظومة قائمة بذاتها يصعب تفكيكها أو السيطرة عليها.
أكد الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي، الدكتور مجدي الجاموس، في تصريح خاص لموقع “الحل نت”، أن قرار رفع العقوبات يمثل نقطة تحول سياسية واقتصادية جوهرية، تتيح إعادة إدماج البلاد في النظام العالمي وتمهد الطريق للتعافي الاقتصادي. ولكنه شدد على أن النتائج الفعلية لهذا القرار ستتوقف على قدرة الدولة على إدارة المرحلة بفعالية، عبر إصلاحات مؤسسية وتشريعية حقيقية.
يرى الجاموس أن “اقتصاد الظل”، الذي نما بشكل واسع بسبب غياب القوانين وارتفاع الضرائب وغياب الثقة بالدولة، لا يعد بطبيعته إجراميًا، بل نشأ كخيار اضطراري في ظل ضعف البيئة القانونية. ومع ذلك، فإن استمراره يعد عائقًا أمام التنمية المستدامة، ولا بد من خطة واقعية لدمجه في الاقتصاد الرسمي، من خلال خريطة تنظيمية واضحة، وتسهيل إجراءات الترخيص، وتقديم حوافز ضريبية ومالية، وتوفير قروض للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر التي تشكل الجزء الأكبر من هذا الاقتصاد.
واعتبر الجاموس أن إعادة تنظيم هذا القطاع الحيوي يتطلب بيئة قانونية شفافة، وإرادة سياسية واضحة، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن. كما رأى أن بناء بيئة جاذبة للاستثمار الداخلي والخارجي هو أحد المفاتيح الأساسية للحد من الاقتصاد غير الرسمي، بما يشمل تبسيط الإجراءات، وتحفيز القطاع المالي، وتوفير قنوات تمويل مرنة وآمنة، تشجع الفاعلين الاقتصاديين على الانضمام الطوعي إلى المنظومة الرسمية.
سيناريوهان محتملان للمستقبل
في ما يخص استعداد الدولة لضبط هذا الاقتصاد، أكد الجاموس أن مؤسسات الدولة لا تزال ضعيفة ومهترئة بعد سنوات من الحرب والعقوبات. الأجهزة الإدارية والقانونية والخدمية غير مهيأة بعد للتعامل مع اقتصاد معقد وغير منظم، مما يجعل ضبطه حاليًا مهمة جزئية أو شكلية، ما لم تُستكمل بإعادة هيكلة شاملة لمؤسسات الدولة.
وأوضح أن الأشهر الستة الماضية شهدت تعمقًا في اقتصاد الظل بسبب استمرار العمل دون تراخيص في قطاعات حيوية، كالصرافة وتجارة السيارات والمحال التجارية. وحذر من استمرار هذا الاتجاه ما لم تُترجم لحظة رفع العقوبات إلى إجراءات عملية لإعادة تأهيل البنية القانونية والمؤسسية، وتشجيع الفعاليات الاقتصادية على الامتثال.
ورأى الجاموس أن هناك سيناريوهين محتملين بعد رفع العقوبات: إما انكماش تدريجي لاقتصاد الظل نتيجة دخول استثمارات وتنظيم السوق، أو تعمقه في ظل استمرار الغموض والتراخي التشريعي. وأشار إلى أن بعض القطاعات، كالاستيراد والتصدير والمشروعات الكبرى، مرشحة للانخراط السريع في الاقتصاد الرسمي بحكم ارتباطها بالقطاع المالي، بينما قد يستمر التهرب في المشاريع الصغيرة بفعل تدني الرواتب وضعف الحوافز.
“اقتصاد الظل”: عائق رئيسي أمام التعافي
فيما أكد الباحث الاقتصادي، يحيى السيد أحمد، أن “اقتصاد الظل” يُعد من أبرز العوائق أمام تعافي الاقتصاد السوري، لكونه نشاطًا غير رسمي خارج الإطار القانوني، مما يحرمه من الرقابة والإدماج في الناتج المحلي، ويُبقي العاملين فيه دون حماية قانونية أو اجتماعية. وأوضح أن هذا الاقتصاد ينمو بفعل تعقيد الإجراءات الإدارية والضريبية، حيث يفضل كثيرون العمل بدون ترخيص هربًا من البيروقراطية والرسوم.
الظاهرة تؤثر سلبًا على الدولة من حيث فقدان الإيرادات، وعلى سوق العمل من حيث هشاشته، مؤكدًا أن “اقتصاد الظل” في سوريا وصل إلى مستوى خطير يعكس عمق الأزمة، مقارنة بمتوسط عالمي لا يتجاوز 20%.
وشدد السيد أحمد على أن السياسات الاقتصادية المتبعة سابقًا، بما فيها الضرائب المرتفعة والإتاوات، ساهمت في تفاقم هذه الظاهرة، ودفعت عشرات الآلاف للعمل في ظروف غير إنسانية، بأجور متدنية ومن دون أي ضمانات. كما حذر من أن استمرار هذه البيئة الطاردة سيحول دون جذب الاستثمارات ويعمق معاناة السوريين.
ودعا السيد أحمد إلى تبسيط إجراءات الترخيص وتقليص مدتها إلى أسبوع، واستبدال المعاملات الورقية بمنصات رقمية، إلى جانب تطوير البيئة التشريعية والاعتماد على تجارب ناجحة مثل الإمارات. واختتم بالقول إن معالجة “اقتصاد الظل” ضرورة وطنية عاجلة لإعادة تنظيم سوق العمل، وتحقيق عدالة توزيع الدخل، وجذب رؤوس الأموال، بما يسهم في تعزيز الاستقرار والنمو الاقتصادي.
إقرأ أيضاً: الليرة السورية والليرة التركية تنافس على المصالح يضرب مصالح الناس
إقرأ أيضاً: نظام استثماري جديد لتحريك عجلة الصناعة في سوريا