الخديعة الكبرى: كيف سقطت سوريا في وهم الثورة والنظام معًا؟

داما بوست -إيليانا الدروبي

طوال السنوات الأربع عشرة من الحرب على سوريا، لم يكن السوريون ضحايا إرهاب وحرب عسكرية فحسب، بل كانوا أيضًا ضحايا لأكبر مشروع تزوير في التاريخ الحديث.
انخدع داعمو الثورة السورية، كما انخدع المعارضون الصامتون، لكن المخدوع الأكبر كانت الحاضنة الشعبية لمشروع النظام السوري السابق الذي انهار في الثامن من كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي. جميع هؤلاء آمنوا بشيء ما، لكنهم – من حيث لا يعلمون – قدّموا حياتهم وجهودهم لخدمة النقيض تمامًا.

الخديعة الكبرى انطلت على الجميع:

الخديعة المشتركة: معارضون وموالون وثوار

من يتأمل الواقع السوري اليوم، يجد أنه:

  • المعارضون: لم يحصدوا ما تمنوه من سقوط النظام، بل وجدوا أنفسهم أمام واقع مُرّ لم يرضِ أحدًا.
  • الموالون: شعروا بخذلان قاسٍ بعد خسائر أربع عشرة سنة بلا فائدة تُذكر.
  • الفصائل المسلحة: رقصوا – جهلاً أو خداعًا – على أنقاض وطن مدمَّر وشعب مسحوق وكرامة مهانة.

السؤال المركزي لم يعد: من خدع السوريين؟ بل: كيف جرى خداعهم جميعًا؟

من 2011 حتى 2024: مسار الخديعة

منذ انطلاقة الأحداث في عام 2011، يمكن تتبع الآليات التي استُخدمت لخداع السوريين وغيرهم. غير أن الأسبوع الأخير قبل سقوط النظام السوري هو الأكثر غموضًا وإثارة للأسئلة.

منذ لحظة إطلاق معركة “ردع العدوان” والسيطرة على حلب، بدأت خديعة كبرى لا تزال تفاصيلها مجهولة حتى اليوم. بالكاد يمكننا طرح الأسئلة حولها، من دون أن نجد إجابات حقيقية.

حلب: اللغز الأول

كيف سقطت حلب من يد النظام السابق؟

المعلومات المتوافرة كثيرة لكنها لا تشكّل رواية واضحة. المؤكد أن عناصر من الجيش السوري السابق كانوا منتشرين في خطوط دفاعية. الهجوم بدأ بالسيارات المفخخة والمسيرات، ثم تلاه اغتيال شخصيات عسكرية وأمنية سورية وإيرانية، أبرزهم رئيس فرع الأمن العسكري في حلب وكبير المستشارين العسكريين الإيرانيين، وقد جرى اغتيالهم عن قرب في مكاتبهم لا عبر المسيرات.

اندلعت اشتباكات لساعات محدودة، ثم فجأة اختفى الجميع: الجيش، الحلفاء، والقوى الرديفة. انهارت الخطوط الدفاعية المتبقية وبقي الشعب وحده في مواجهة المجهول.

بعض المنتسبين لمؤسسات الدولة في حلب تحدثوا لاحقًا عن إشارات وصلتهم للهروب، لكن الغالبية لم تكن تعلم ما الذي يحصل. وهكذا خرجت حلب عن سيطرة النظام بلا قتال، لتسقط بعدها حماة وحمص، وصولًا إلى دمشق التي انهارت كتحصيل حاصل.

غياب الحقيقة وتضليل الإعلام:

في الشارع السوري لم تكن هناك معلومات واضحة. المصادر الرسمية غابت، والتصريحات تحولت إلى أدوات خداع عبر الطمأنة الكاذبة.

  • بيانات وزارة الدفاع وأخبار الإعلام السوري اعتمدت على مصادر عسكرية غير دقيقة.
  • الأنظار كانت مشدودة إلى خطورة الهجوم، وانتظار الوساطات العربية واجتماعات الجامعة العربية.
  • تداولت وسائل الإعلام أخبارًا عن زيارات للرئيس السابق بشار الأسد واجتماعات غامضة، من دون أي تأكيد رسمي.

الأكثر إثارة أن المبعوث الأممي غير بيدرسون زار دمشق قبل يومين من السقوط، وصرّح بتصريحات اعتيادية، بينما الحقيقة أنه اجتمع بشكل طارئ في مقر إقامته مع جميع سفراء الدول العربية والغربية. وبعد الاجتماع مباشرة، قامت كل السفارات – من دون استثناء – بإخلاء مقراتها أو إتلاف مستنداتها أو اتخاذ إجراءات أمنية مشددة، في الوقت الذي أنكر فيه بعضها هذه الإجراءات علنًا.

مؤسسات رسمية مغيّبة:

عدد من المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية اتخذت إجراءات توحي بأنها كانت مدركة للنهاية، لكن معظم المؤسسات الخدمية والإعلامية والرسمية كانت مغيّبة تمامًا عن الواقع.

  • وزير الداخلية ظهر على الإعلام قبل ساعات من سقوط النظام السابق ليطمئن السوريين بأن دمشق آمنة، بينما كان عناصره يخلعون سلاحهم ولباسهم. وقد بدا – رغم الشكوك – غير مدرك لما يحدث.
  • وزير الإعلام بقي يكلّف إعلاميه بالتغطية المعتادة لدعم الجيش وطمأنة المواطنين، بينما بعض مدراء المؤسسات الإعلامية بدأوا بتغيير التوجيهات في الأيام الأخيرة لإدراكهم أن شيئًا كبيرًا يتغيّر.
  • عناصر من الجيش تحدثوا أنهم بقوا في مواقعهم حتى اللحظة الأخيرة من دون أن تصلهم أي تعليمات.

هذا يعني أن الغالبية من السوريين، ومن بينهم قيادات سياسية وعسكرية وأمنية، خُدعوا من قبل أقلية كانت جزءًا من خديعة كبرى مُحكمة التخطيط.

بعد السقوط: الفوضى والخديعة الإعلامية:

حصل السقوط. نزل الناس إلى الشوارع أو فرّوا إلى قراهم، فيما استكملت قوات ردع العدوان دخولها إلى العاصمة بلا مقاومة، لتعمّ الفوضى العارمة لأيام.

لكن هنا برزت الخديعة الأكبر:

  • الإعلام الغربي والأعلام الخضراء كانوا جاهزين في دمشق.
  • لم تُصوَّر مشاهد الخوف والهرب والصدمة، بل صُوِّرت مشاهد الفرح والرقص.
  • سجن صيدنايا تحوّل فجأة إلى العنوان المركزي؛ إذ أُعيدت روايات معدة مسبقًا عن قصص المعتقلين، رغم أن الكثير منها تبين لاحقًا أنه كذب.
  • ومنذ تلك اللحظة، لم يمر يوم من دون أن نسمع تفاصيل جديدة عن هروب الأسد: هل أخذ ذهبًا وأموالًا؟ من رافقه؟ أين يقيم الآن؟ كلها أخبار متجددة بلا مصادر، لكنها صارت مادة يومية تُشغل السوريين عن السؤال الحقيقي: ماذا حدث فعلًا؟

صناعة الأوهام: مرحلة ما بعد السقوط:

الحيّز الأكبر من العمل السياسي والإعلامي ركّز على نقل السوريين سريعًا إلى مرحلة ما بعد السقوط:

  • زيارات مسؤولين غربيين وعرب.
  • وعود بانفتاح دبلوماسي ورفع للعقوبات.
  • تقديم رئيس المرحلة الانتقالية.
  • أحلام الاستثمارات والصفقات الكبرى التي ستعيد لسورية الحياة.

لكن خلف هذه الأوهام، كانت أبشع المجازر تُرتكب ضد السوريين، وكان الكيان الصهيوني يحتل أهم الأراضي ويدمر ما تبقى من مواقع الجيش وسلاحه.

وبينما كان ذلك يحدث، ظلّت الأخبار المثيرة عن هروب الأسد واعتقال رجالات نظامه تُستخدم كمادة مخدّرة لأي نظرة واعية. كل من حاول السؤال أو التشكيك كان يواجه ذبابًا إلكترونيًا مدربًا على الترهيب والتضليل.

سجن الوهم الجماعي:

حتى اللحظة، ما زال السوريون عالقين في سجن الوهم الذي صُنِع لهم. كل يوم يعيشون تحت وطأة معلومات محرضة أو صادمة أو مضللة، فيما القلائل فقط يبحثون عن المخرج الحقيقي من مكابس الخداع التي تسحقهم.

لقد أُغلق على السوريين جميعًا في “سجن صيدنايا الرمزي”، حيث تحوّل إلى استعارة كبرى للسجن الجماعي الذي أحاط بهم، بينما العالم من حولهم كان يعيث دمارًا في بلدهم المسروق.

 

إقرأ أيضاً: إسرائيل تثبّت نقاطًا عسكرية في رخلة: خطوة استراتيجية تهدد أمن دمشق وبيروت

إقرأ أيضاً: تصعيد إسرائيلي في القنيطرة: رسائل عسكرية وسياسية عبر التوغلات والاعتقالات

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.