سوريا الجديدة: الطاقة بوابة النفوذ وصراع الإرادات في زمن ما بعد الأسد
داما بوست -خاص
قطاع الطاقة يُعدّ من أهم ركائز الاقتصاد والتنمية في أي دولة، إذ يشكّل المحرّك الأساسي للصناعة، والنقل، والخدمات، وكافة مناحي الحياة الحديثة. تعتمد الدول على الطاقة لضمان أمنها القومي، وتعزيز نموّها الاقتصادي، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. كما أن التطوّر في قطاع الطاقة المتجددة يُعدّ مفتاحاً لمواجهة التغير المناخي، وتقليل الاعتماد على الوقود. لذلك، فإن الاستثمار في هذا القطاع وتحديثه يُعتبر أولوية استراتيجية للدول الساعية لتحقيق التنمية المستدامة وضمان مستقبلٍ آمنٍ ومزدهر.
وبعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب، ووسط انهيارات متتالية في بنى الدولة، جاء سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 ليعيد رسم خريطة سوريا من جديد، ليس فقط على مستوى السياسة الداخلية، بل في قلب المعادلات الجيوسياسية الكبرى، فقد وجدت سوريا نفسها عند مفترق طرق جيوسياسي جديد، تتحرك فيه القوى الإقليمية والدولية نحو تثبيت نفوذها لا عبر السلاح، بل عبر الطاقة والاستثمار والبنية التحتية.
الطاقة كمفتاح لفهم الصراع
منذ بدايات الأزمة، شكّل موقع سوريا الجغرافي عاملاً حاسمًا في الصراع، فهي تقع على تقاطع طرق رئيسية لخطوط الغاز بين الخليج وأوروبا، ما جعلها حلقة وصل محتملة في استراتيجية أمن الطاقة العالمي، ومن أبرز نتائج هذا التنافس، مشروع خط أنابيب الغاز بين قطر وتركيا، الذي كان مبنياً على أن ينقل الغاز القطري عبر السعودية والأردن وسوريا وصولاً إلى أوروبا، إلا أن رفض نظام الأسد لهذا المشروع من أجل ارضاء حليفته موسكو، عطّل المشروع ، وأسهم – وفق بعض التحليلات – في تصعيد الصراع السوري ضمن شبكة معقدة من الدوافع السياسية والاقتصادية.
صحيح أن اعتبار الحرب السورية سببه الصراع على الغاز يُعد تبسيطاً للواقع، إلا أن قطاع الطاقة وطرق عبوره لعب دورًا محوريًا ضمن “صراع الإرادات” بين القوى الكبرى، وهو ما ازداد وضوحًا بعد سقوط النظام.
اتفاقية الـ7 مليارات: استثمار أم نفوذ؟
في مشهد جديد لسوريا الجديدة، شهدت دمشق في 29 من مايو توقيع اتفاقية طاقة تعد الأضخم في تاريخ سوريا بقيمة 7 مليارات دولار، وهو رقم يساوي ثلاثة أضعاف موازنة سوريا لعام 2024، يشمل هذا الاتفاق تشييد 4 محطات كهرباء عاملة بالغاز، ومحطة طاقة شمسية، بقدرة إجمالية تبلغ 5000 ميغاواط. الاتفاق وُقّع بين الحكومة السورية الانتقالية وتحالف من الشركات القطرية والأمريكية والتركية، وبحضور سياسي رفيع ضم مبعوثين من واشنطن، الدوحة وأنقرة، ما يعكس البعد الجيوسياسي للصفقة.
هذه الخطوة جاءت بعد رفع معظم العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، في تحول جذري أعلن عنه ترخيص أمريكي جديد (GL 25)، يهدف إلى دعم التعافي الاقتصادي و”تشجيع التجارة لا الفوضى” حسب تعبير واشنطن، ورغم الترحيب الواسع بهذه الخطوة، فإنها تمثل في الوقت ذاته بداية مرحلة جديدة من النفوذ الدولي في سوريا، تعتمد على الاستثمار كوسيلة للتأثير.
تحولات حادة في مواقف القوى الإقليمية
تركيا، التي كانت من أشد خصوم النظام السابق، عادت بقوة عبر مشاريع الطاقة، ساعية لترسيخ نفسها كممر إقليمي للغاز إلى أوروبا، وتحقيق أهدافها الجيوسياسية من خلال أدوات اقتصادية، وقطر التي دعمت المعارضة آن ذاك، أصبحت الآن شريكًا محوريًا في إعادة الإعمار، وتستثمر في مشاريع ضخمة تعزز نفوذها الإقليمي وتعيد إحياء طموحاتها القديمة بخط الأنابيب، بينما الولايات المتحدة، التي رفعت العقوبات، تبنّت مقاربة جديدة تقوم على النفوذ الاقتصادي غير المباشر، وتمكين حلفائها من السيطرة على ملف إعادة الإعمار إلا أن الخاسر الأكبر كان روسيا وإيران، وجدتا نفسيهما في موقع ضعيف، مع خسائر استثمارية ضخمة ومشاريع متوقفة، وموقف عدائي من الحكومة الانتقالية التي تسعى للتخلص من النفوذ القديم، من جهتها “إسرائيل” سارعت لإنشاء حزام أمني في الجنوب، ومحاولة إبقاء سوريا في حالة تفكك داخلي لضمان أمنها القومي.
بين الحاجة للتعافي وخطر التبعية
رغم أهمية الاستثمارات الدولية لتحقيق التعافي السريع وإعادة الإعمار، إلا أن هذه الأموال تأتي بشروط غير معلنة، وتمنح القوى المستثمرة نفوذاً سياسيًا واقتصاديًا متزايدًا، ومع اعتماد الحكومة الجديدة على القطاع الخاص الدولي لتحمّل أعباء الإعمار، تظهر ملامح تبعية اقتصادية قد تكون خطيرة على المدى الطويل، ما يهدد استقلالية القرار السوري، وبينما تراهن دمشق على أن رأس المال الأجنبي سيدفع عجلة النمو، فإن الواقع يُظهر أن رأس المال يحمل معه أجندات سياسية، وهذا يضع الحكومة الجديدة أمام تحدي التوازن: كيف تحقق التنمية دون أن تصبح رهينة لمصالح الحلفاء الجدد؟
مستقبل سوريا: تنافس بلا مدافع
لقد تحول الصراع في سوريا من صراع عسكري إلى صراع اقتصادي على البنى التحتية، العقود، والموانئ ومشاريع الطاقة ومن الواضح أن إعادة الإعمار لم تعد مجرد عملية إنسانية، بل أصبحت ساحة للتنافس الجيوسياسي، حيث يسعى كل طرف إلى ترسيخ موطئ قدم طويل الأمد، سواء من خلال الاستثمار، أو تقديم الدعم المالي، أو عبر التحكم بمفاتيح الطاقة.
مفترق طرق جيوسياسي
تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق حاسم إما أن تستثمر هذه المرحلة لتبني نموذجًا جديدًا قائمًا على التوازن والسيادة والانفتاح، أو أن تقع فريسة للنفوذ الجديد، لكن بثوب استثماري وواجهات تنموية.
نجاح الحكومة السورية الجديدة في إدارة هذا التوازن، وتحديد أولوياتها الوطنية بعيدًا عن الضغوط الخارجية، سيكون هو الفيصل في تحديد ما إذا كانت سوريا ستتعافى حقاً، أم أنها ستنتقل إلى عصر الهيمنة الاقتصادية.
إقرأ أيضا: سوريا توقّع مذكرة تفاهم تاريخية بقيمة 7 مليارات دولار مع مجموعة شركات لتطوير قطاع الطاقة